كثر الحديث إعلاميا وسياسيا هذه الأيام عن الدور المرتقب للقوة المشتركة لدول الساحل الخمس (موريتانيا، مالي، النيجر بوركنفاسو، واتشاد)، وحقيقة تشكيلها، ودور الدول المؤسسة لها، وكيفية مواجهتها للجماعات المصنفة كتنظيمات إرهابية، وما هي حقيقة الدور الذي ستلعبه موريتانيا في تلك القوة
..
وإذا ما قرأنا بصورة متأنية، وقائع ونتائج القمة الأخير التي عقدت بين رؤساء الدول الخمس المعنية في العاصمة المالية باماكو، بحضور الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون، سيتضح لنا بجلاء، ودون الغوص عميقا في ثنايا المداولات والنقاشات الثنائية والجماعية للقمة، حجم تباين وجهات نظر هذه الدول حيال تلك القوة المشتركة، ودورها والمهام المنوطة بها، وحتى مواقيت جاهزيتها ومواعيد استعداداتها العملياتية.
نقاط الخلاف
ولعل أبرز نقاط الخلاف على ما يبدو، تتعلق بوجهات النظر حول دور هذه القوة المشتركة، وكيفية أدائها للمهام المنوطة بها، فالتصريحات الصادرة من باماكو ومن ورائها النيجر وبركنفاسو، تشي بأن القوة ستكلف بالقضاء على الجماعات "المتطرفة" وطردها من المنطقة، على أن تبدأ عملياتها بعد شهر واحد على الأقل (نهاية شهر يوليو)، وستشرع كتائب من جيوش الدول الخمس اعتبارا من ذلك التاريخ، في التوغل داخل عمق الصحراء المالية، ميممة معاقل الجماعات "الجهادية" في جبال آدرار الإفوغاس وشمال تمبكتو، في حين يتضح من خطاب المسؤولين الموريتانيين وفي مقدمتهم تصريحات الرئيس محمد ولد عبد العزيز لإذاعة فرنسيا الدولية، أن عمل القوة لن يبدأ بالسرعة المتوقعة ماليا ونيجريا، ولن تكون جاهزة في الآجال التي يتصورها القوم، وأن البداية ـ إن حصلت ـ ستكون مواجهة كل دولة على حدة وبالتعاون مع الأخريات، لما يتهددها من مخاطر، عبر تعزيز قدراتها العسكرية والأمنية وحماية مناطقها الحدودية المشتركة مع البلدان الأخرى، عبر حشد قواتها المدعومة داخل أراضيها وفي مناطقها الحدودية المحاذية لشمال مالي (المنطقة المستهدفة)، على أن يكون هناك تنسيق وتعاون في إطار ملاحقة عناصر الجماعات "الجهادية" وتضييق الخناق عليها، وهو ما أشار إليه ولد عبد العزيز حين أكد، أن الكتيبة الموريتانية ستنتشر على الحدود الموريتانية المالية، في توضيح للدور المنوط بها في الحرب المرتقبة، دون التورط ميدانيا في المستنقع المالي، بخلاف تصور بعض الدول الأخرى.
مساع لجر موريتانيا إلى المستنقع
وهنا يمكن الجزم أن الغاية الكبرى لدى بعض هذه الدول، هو جر الجيش الموريتاني إلى ميدان المواجهة في شمال مالي، نظرا لأن باقي الدول المعنية (النيجر واتشاد وبركنافاصو) توجد قوات تابعة لها في شمال مالي منذ بداية عام 2013، حيث عملت تحت مظلة القوات الإفريقية هناك، ومن ثم انتقلت الوصاية عليها إلى قوات "المنيسما" الدولية، أما القوات الموريتانية فهي الوحيدة من بين قوات دول الساحل الخمس التي لا وجود لها في الشمال المالي، ولم تشارك في القتال ضد الجماعات الجهادية هناك منذ عام 2013، رغم أنها سبق وأن توغلت في الشمال المالي، وواجهت بمفردها تلك الجماعات سنوات 2009 و2010 و2011، حتى دون دعم من القوات المالية التي اكتفت حينها باستضافة المعارك على أراضيها، والتفرج على الأحداث.
من هناك يمكن القول إن اختلاف وجهات نظر حكومات الدول الخمس يعود إلى اعتقاد أربع منها أنها تمكنت أخيرا من جر موريتانيا إلى فخ التورط معها في المستنقع المالي، وأن القوات الموريتانية ستكون في مقدمة الوحدات التي ستواجه عناصر تلك الجماعات في معاقلها في تغرغارت وتمترين وتنزواتين وغيرها، بينما ترى الحكومة الموريتانية أن الأمر يتعلق في البداية بضرورة تعزيز أمن الحدود المشتركة من طرف جيوش دول المنطقة، وتعزيز التعاون العسكري والاستخباراتي، وأن الخروج من المستنقع يمر أولا بحل الإشكالات الداخلية للبلدان المعنية خصوصا جمهورية مالي، والتي تشكل بؤرة التوتر ومصدر الحاضنة الشعبية الحقيقية للجماعات، وهو ما يجعل من أي حرب إقليمية أو دولية هناك، قبل تسوية الأوضاع الداخلية، حشرا للأنف في أزمة تواجهها مالي مع مجموعات من سكانها، لاعتبارات عرقية أو جغرافية، وبالتالي ستكون تورطا في شأن مالي داخلي، كان ينبغي على الحكومة المالية تسويته قبل الحديث عن مساعدة الآخرين لها في تطهير أراضيها من "الإرهاب"، وسيلاقي أي عمل عسكري وأمني مشترك هناك في هذه الظروف، ذات المصير الذي آل إليه عمل القوات الفرنسية والدولية، التي قادت حربا ضروسا أدت اليوم إلى تعقيد الأوضاع أكثر من سابق عهدها، وتوسيع دائرة الجماعات "الجهادية"، ليتمدد نشاطها جنوبا نحو منطقة "ماسينا"، وتقحم المزيد من العرقيات في المواجهة المفتوحة، كما نجحت خلالها التنظيمات في التأقلم مع المستجدات، وإعادة ترتيب صفوفها، وانتقلت من مرحلة التنسيق (أنصار الدين، والقاعدة، والتوحيد والجهاد...) إلى مرحلة الوحدة والاندماج (جماعة نصرة الإسلام والمسلمين).
تشاد والتجربة الدامية
أما الجيش تشادي الذي ينظر إليه على غرار الجيش الموريتاني باعتبارهما أقوى جيوش الدول الخمس المعنية، فلديه اعتباراته الخاصة، أولها عدم وجود أي ارتباط حدودي أو جغرافي أو عرقي بين تشاد وشمال مالي، الأمر الذي يجعله مصنفا كمعني من الدرجة الثانية بتلك الحرب، بخلاف موريتانيا التي ترتبط مع مالي بحدود تزيد على 2300 كلم، فضلا عن التجربة الدامية التي خاضها الجيش تشادي مع الجماعات "الجهادية" في شمال مالي سنة 2013، حين أرسل إلى ساحات القتال المئات من قواته الخاصة، حاول عناصرها التقدم نحو جبال الأفوغاس بتغطية جوية فرنسية، وشحن إعلامي غربي يقدم للتشاديين أنفسهم كجيش لا يقهر في الصحراء، فاندفعوا بتهور نحو معاقل "القاعدة" و"أنصار الدين" في جبل "تغرغارت"، لتكون التكلفة باهظة وثقيلة، حيث قتل العشرات من قوات النخبة، وفي مقدمتهم قائد القوات الخاصة تشادية الرائد "عبد العزيز حسين آدم"، وأصيب عشرات من بينهم نجل رئيس البلاد، الضابط "محمد ديبي اتنو"، وعادت عشرات التوابيت إلى نجامينا محملة بالجثث، وفي الوقت الراهن يواجه الجيش تشادي متاعب في قتاله ضد عناصر "جماعة بوكو حرام" في شمال نيجريا وجنوب النيجر ومنطقة بحيرة تشاد، ويحتفظ بمجموعة قليلة من قواته في شمال مالي ضمن قوات "المنيسما"، لذلك من غير المتوقع أن تكون لديه حاليا، القوة الكافية ولا الجاهزية المطلوبة، للعمل كقوة ضاربة قاضية، ضد الجماعات "الجهادية" في شمال مالي والصحراء الكبرى.
الشأن الداخلي أولا.
وبالعودة إلى مقابلة ولد عبد العزيز مع إذاعة فرنسا الدولية يمكن القول إن حديثه عن البعد العرقي لبعض المجموعات المصنفة كتنظيمات إرهابية، في إشارة إلى كتائب تحرير ماسينا (الفلان) وجماعة أنصار الدين (الطوارق) ، وكذلك وجود ما سماها مصاعب يعاني منها السكان في المنطقة، في تلميح إلى المظالم المعروفة تاريخيا والتي يعاني منها سكان أزواد، كلها مؤشرات توحي بأن الرجل أراد لفت الانتباه ـ تلميحا لا تصريحا ـ إلى إن جزءا كبيرا من الأزمة مصدره شأن داخلي لجمهورية مالي، وعلى قيادتها السياسية تسوية أوضاعها مع سكان الشمال، والمجموعات العرقية فيها، والوفاء بالتزاماتها حاليهم، خصوصا ما يتعلق منها بتنفيذ اتفاق الجزائر الذي توقف بعد التوقيع عليه، كل ذلك ينبغي أن يتم قبل الشروع في الحديث عن مواجهة مشتركة لتهديد إقليمي تواجهه دول المنطقة من داخل الأراضي المالية، وهو تهديد إن وجد فإن عوامل تغذيته الأساسية تمر عبر قنوات تلك المظالم وذلك الاضطهاد الذي يشكو منه سكان شمال مالي، وحولهم إلى حاضنة لذلك التهديد.
واختصارا يمكن القول إن المعطيات التي رافقت قمة باماكو والتصريحات التي واكبتها، لا توحي بتغير كبير في الموقف الموريتاني من القتال في شمال مالي، قبل أن تتغير أمور كثيرة في المنطقة، قد تأخذ إعادة ترتيبها سنوات ليست باليسيرة، وقد لا يكون النظام الحاكم حاليا في باماكو هو من سيرفع تحدياتها.