موريتانيا من الاستعمار إلى الاستقلال: مسار تشكّل الدولة بين النجاحات والإخفاقات والتطلعات
2025-11-24 12:26:26
يمثّل التاريخ السياسي لموريتانيا خلال القرنين الماضيين مسارا معقدا لتشكّل الدولة الوطنية في فضاء صحراوي متعدد البُنى الاجتماعية والثقافية. فمنذ دخول الاستعمار الفرنسي مطلع القرن العشرين إلى لحظة إعلان الاستقلال عام 1960… ومن ثم بناء الدولة الحديثة، ظلت موريتانيا تتأرجح بين تحديات الإرث الاستعماري، ورهانات بناء مؤسسات فعّالة ومتطلبات الاندماج الوطني. وسأعرص في هذا المقال إلى تقديم قراءة تحليلية لتطور موريتانيا من الاستعمار إلى الاستقلال.. ثم استعراض النجاحات والإخفاقات التي عرفتها الدولة وصولا إلى أهم التطلعات المستقبلية.
أولا: موريتانيا في ظل الاستعمار الفرنسي (1903–1960)
ad
طبيعة الوجود الاستعماري:
دخلت فرنسا الأراضي الموريتانية في بدايات القرن العشرين عبر حملة عسكرية قادها كبولاني (Coppolani)… وقد اعتمدت الإدارة الاستعمارية سياسة تقوم على:
ad
– السيطرة التدريجية على الإمارات التقليدية.
– محاولة تنظيم البنى الاجتماعية في إطار “الإدارة غير المباشرة”.
-إدماج الإقليم في منظومة غرب إفريقيا الفرنسية (AOF).
لم تُولِ الإدارة الاستعمارية اهتماما بالبنية التحتية أو النمو الاقتصادي.. كما ظل التعليم محدودا.. ما ساهم في تأخر تشكّل نخبة وطنية واسعة مقارنة بجيرانها.
تشكل الوعي الوطني
على الرغم من الانقسامات القبلية والجهوية، بدأ وعي سياسي جديد يتبلور مع:
– المدارس الفرنسية الأولى.
حركة العلماء والزوايا.
نشوء حركة سياسية في الخمسينيات.. توّجت بظهور حزب الاتحاد التقدمي الموريتاني الذي قاد مسار التفاوض مع فرنسا.
ثانيا: الاستقلال وتحديات بناء الدولة (1960–1978)
إعلان الدولة وبناء المؤسسات
أعلنت موريتانيا استقلالها في 28 نوفمبر 1960 بقيادة الرئيس المختار ولد داداه، الذي واجه تحديات جذرية أبرزها:
– بناء مؤسسات دولة من الصفر تقريبا.
– توحيد مجتمع متعدد الأعراق (العرب، الأمازيغ/الزنوج).
– إطلاق إدارة مركزية حديثة.
– توسيع التعليم وتأسيس البنية الإدارية.
أزمة الهوية الوطنية
مثّل سؤال الهوية أحد أهم رهانات موريتانيا المستقلة.. إذ تعايشت:
الهوية العربية الإسلامية، مع مكوّنات إفريقية جنوبية (الولوف، السوننكي والبولار). إلا ان عدم الحسم في هذا الموضوع أنتج توترات لاحقة في الثمانينيات والتسعينيات… استطاع النظام الجديد رأب صدعه بعدة مبادرات مهمة جدا وحاسمة.
وكما تمت الاشارة سابقا وبعد الاستقلال واجهت موريتانيا مهمة صعبة تمثلت في بناء دولة وطنية من الصفر. ومع توسيع الإدارة وإنشاء المدارس والمستشفيات وصياغة هوية وطنية جامعة، بقيت التحديات كبيرة، خاصة في ظل مجتمع متعدد الأعراق… كما أن الانخراط في حرب الصحراء أثّرت على الاقتصاد والسياسة وأدت إلى انقلاب 1978. ومن هذا التاريخ أي 1978 حتى 2005 تعاقبت عدة أنظمة عسكرية، أدت إلى عدم استقرار سياسي، لكنها شهدت أيضًا خطوات مهمة مثل إصدار العملة الوطنية وتوسع مؤسسات الدولة. وعلى الرغم من ذلك ظلت أزمات الهوية، وضعف التنمية، ومحدودية الحريات السياسية معضلات تحتاج إلى حلول عميقة.
** من التعددية إلى إصلاح الدولة
ابتداءً من منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، دخلت موريتانيا مسارًا جديدًا نحو التعددية السياسية، وتطورت البنى التحتية، وظهرت اكتشافات الغاز التي جعلت البلاد محط اهتمام دولي. كما شهد القطاع الأمني تحديثًا واسعًا مكّن موريتانيا من لعب دور مؤثر في أمن الساحل.
** النجاحات التي راكمتها الدولة
على الرغم من تعاقب الأنظمة، استطاعت موريتانيا تحقيق مكاسب مهمة:
– استقرار سياسي نسبي وجو عام يميل إلى التهدئة.
– تطوير شبكات الطرق والموانئ والكهرباء.
– تحديث المؤسسة العسكرية والأمنية وقدرتها على مواجهة التهديدات.
– توسع التعليم العالي بإنشاء جامعات ومعاهد جديدة.
– تعزيز حضور موريتانيا الخارجي في الاتحاد الإفريقي ومجموعة دول الساحل.
** إخفاقات ما تزال عالقة:
بالمقابل، ما تزال هناك تحديات كبيرة تقف أمام الدولة، أهمها:
– ضعف العدالة الاجتماعية واستمرار الفوارق الاقتصادية.
– بطء إصلاح الإدارة وبقاء المحسوبية.
– توترات الهوية أحيانًا، وملفات الإرث الإنساني.
– هشاشة الاقتصاد واعتماده على المعادن والصيد دون تنويع كافٍ.
** الإشادة بالمجهودات الحكومية والمجتمع المدني:
رغم التحديات القائمة، لا يمكن إغفال المجهودات الإيجابية التي بُذلت في العقدين الأخيرين سواء من طرف النظام أو المجتمع المدني.
فقد أطلقت الحكومات المتعاقبة مشاريع كبيرة للربط الطرقي، وتحسين الخدمات الصحية، وتوسيع التغطية الكهربائية والمائية، وتحديث العاصمة والمدن الداخلية.
كما شهدت السياسات الاجتماعية تطورًا ملحوظًا من خلال برامج دعم للفئات الهشة، ومحاربة الفقر، وتعزيز التعليم الأساسي.
أما المجتمع المدني فقد لعب دورًا مهمًا في الدفاع عن حقوق الإنسان، وترسيخ ثقافة المواطنة، وتطوير وعي شبابي منفتح، ومراقبة العمل العمومي، والمساهمة في الحوار الوطني المتواصل.
التقاء هذه الجهود في مسار واحد يؤكد أن بناء الدولة ليس مسؤولية السلطة وحدها، بل هو مشروع مشترك تتقاسم فيه الدولة والمجتمع مسؤولية الإقلاع الوطني.
تطلعات المستقبل: فرصة تاريخية يجب استثمارها
تقف موريتانيا اليوم أمام مفترق طرق حاسم:
– اكتشافات الغاز تمنح البلاد فرصة اقتصادية تاريخية.
– توسع البنية التحتية يؤهلها لتكون مركز ربط في الساحل والمغرب العربي.
– تزايد الوعي السياسي لدى الشباب يشكل ضمانة للتجديد الديمقراطي.
غير أن نجاح هذه الفرص يتطلب:
– تنويع الاقتصاد.
– إصلاح التعليم.
– تقوية دولة القانون.
– وضمان توزيع عادل للثروة.
منذ الخروج من الاستعمار إلى اليوم، عاشت موريتانيا مسارًا مليئًا بالعقبات، لكنه كان أيضًا حافلًا بالإنجازات واللحظات المفصلية. ورغم الإخفاقات، ما تزال البلاد تمتلك رصيدًا مهمًا من الاستقرار، وطاقات بشرية صاعدة، وفرصًا اقتصادية واعدة تجعل المستقبل مفتوحًا أمامها إذا ما تضافرت جهود الدولة والمجتمع في تعبيد الطريق نحو دولة حديثة مزدهرة ومستقرة.