... جاء بي والدي، رحمة الله عليه، إلى منزل عبد الله ولد إموه.. بعد أن صلينا العصر معا في المسجد المقابل لداره.. جلسنا في ظل الدار.. يبدو أن بين الرجلين سابق مودة.. ألح علينا في الدخول إلى الدار.. و لكن الوالد امتنع.. كان هنالك صبية صغار.. واحد منهم في سني.. هو المختار.. أثار قدومي فضوله.. فبدأ يسألني خلسة عن اسمي و اسم أبي.. لم أجبه.. قال لي بفرنسية مدرسية" كيف تُسمى؟"comment tu t'appelles عند ذلك أوعز له والده بالصمت.. فسكت..
.
قال والدي مخاطبا المعلم:" هذا الرجل جئتُ به للتسجيل في مدرستكم.. فأطلب منكم الاعتناء به.. فأنا أظن أنه ليس من الأولاد الذين يُختشى من ميلهم للحركات الجديدة.. درس أغلبية القرآن.. بقيت له أحزابٌ قليلة.. و لكنه ألح عليَ من أجل تركه يتابع مع زملائه.. " كان عبد الله ينصت لحديث أبي و هو يخط في الرمل بأصابعه.. و يردد كلمات:"...ما شاء الله..الحمد لله..الحمد لله ... إن شاء الله..."..
عندما انتهي حديث الرجلين كنت غارقا في تأمل قدمي المختار.. الذي وقف غير بعيد منا.. كانتا شديدتي البياض مع تقوس خفيف أو حَنَفٍ.. حتى قال لي أبي: "هيا بنا..".. قام المعلم من مكانه لتوديعنا قائلا: " ألا تتركه هنا مع إخوته..." .. لم يرُد أبي على ذلك.. و عندما عرجنا جنوبا و اختفينا عن أعين الرجل قلتُ لأبي: " ما بال قدمي هذا الطفل؟" .. فلم يردَ عليَ في البداية.. ثم قال لي: " لقد نهيتك عن كثرة الأخبار و كثرة الأسئلة... لُذتُ بالصمت لأنني أخشى أن يعود الرجل في قراره و يعدل عن تسجيلي في المدرسة.. كدنا نخرج من المدينة جنوبا.. و إذا بنا نصافح رجلا آخر.. فارع القامة.. نحيفا نسبيا.. هادئا كسابقه.. خاطبه أبي بقوله: " دداه.. كيف حالكم؟" .. علمتُ فيما بعدُ أنه المعلم دداه بن عبد الملك.. كان من المعلمين الأوائل في مدرسة المذرذره..
عُدنا إلى منزل أهل أيده ولد إمببو.. هذا الرجل أعرفه جيدا.. كان يضمد شجة في رأسي أحدثتها عصا ضربني بها محمد فال بن حامد.. ول متالي.. كانت العصا في يده.. فأردتُ أن أخطفها منه .. فأمسك فضول ثيابي.. فضربته على اليد.. فانتزع مني العصا و ضربني بها على الرأس.. سال بعض الدم.. و أخذتني أمي إلى أيده.. الذي جعل عصابة بيضاء على رأسي.. فصرتُ أتعهده عند الصباح لتبديل تلك الضمادة.. و لكنه كان قبل أن يتعهد الشجة بالدواء يناولني قدح اللبن.. فأهوي فيه لأشرب من رِسل بقرتهم إغزاله.. التي تعلمتُ اسمها من ابنه محمد محمود.. لم أعد أتذكر حلقات من تلك الحادثة.. إلا أنني عندما دخلتُ ذلك الحائط النظيف ضمتني زوجة شقيقه أم الفضل بنت حمادي إلى صدرها.. و قالت مخاطبة أبي: " أرجو منك أن تترك سيدي معي.. فهو أخي من الرضاعة و أنا أولى به.."
تسكن منزل أهل ايده مجموعة من شباب القرية.. بالإضافة إلى محمد محمود و بباه " أحمدو" هنالك محمد الأمين ولد إكِاه، رحمة الله عليه.. كان الذائد عنا أمام هجمات الاستفزازيين من أطفال المدينة.. فهو يعرفهم و يعرفونه جيدا.. و محمد ولد الفتى.. الذي لم يمكث معنا كثيرا.. و احمدناه ولد خطري.. الذي كان يداوم على الذهاب بنا إلى مجلس القاضي حامد ولد ببها.. عندما نأتي القاضي مساء في ظل تلك الدار المقابلة لمنزله.. يمسح يده على رؤسنا و يقدم لنا بعض القطع النقدية.. و تارة يناولنا سبحته لنذهب بها إلى عبد الله ولد كيك أو سيداتي ولد المعلوم.. دون أن نقول شيئا للتاجر.. يأخذ السبحة و يعطي كل واحد منا 100 فرنك... في أحد الأيام قلتُ لول كيك: " أعطني سبحة القاضي لأردها إليه" .. فقال لي: " أنا أصلي المغرب معه.. و سآتيه بها.. يا ولدي.."
كان ابنه إبابَ، الذي يدرس معنا في القسم، مولعا بغريب اللغة الفرنسية.. كما كان مولعا بالحركات البهلوانية.. يُقلد ممثلي الهوليوود مع صرخات يقوم بها في كل حركة.. و مع ذلك لم يكن كثير المشاركة في الدروس.. لا عن بلادة و إنما كان ذلك من شدة حيائه.. عندما نلِج متجر والده يبُش في وجوهنا.. و ربما دخل إليه مسرعا ليخبره بوجود بعض الزبناء..
في إحدى الأماسي و نحن نجلس مع حامد قيل لنا إن الكادحين سينظمون مظاهرات في السوق..كنا نتطلع إلى ذلك..جاءت مجموعة من الرجال من بينها ديدي ولد سيدي ميله و بعض النسوة من بينها بنات خوباه.. و أخذوا يضربون بعض محلات السوق بأكفافهم و يرددون: " يسقط داداه... تسقط الإمبريالية... عاش النضال..."
بعد سنة من ذلك اليوم التقيت بديدي ولد سيدي ميله عند إحسي عبدو.. و إذا به يخاطب مجموعة من الشباب قائلا:" هذا المنشور الذي سأقرأ لكم نصه تم توزيعه الليلة البارحة في جميع شوارع المذرذره..
كان ديدي يرتدي آنصابل من تركُال خضراء تميل إلى السواد و في رقبته رداء من النسج المحلي فيه من مختلف الألوان.. كانت المناضلات من الحركة تتنافسن في نسج هذه الأردية التي تعبر عن رفضهن للبطالة.. لم تكن هذه المنسوجات مُعدة للبيع.. و إنما تقدم هدايا للمناضلين في بعض المناسبات.. مثل ذكرى " مذبحة عمال زويرات" و " ذكرى وفاة الشهيد سميدع"..
حدثني سيدي ولد أعمر فيما بعدُ عن قصة اختفائه صحبة ديدي عندما علما أن فرقة من الدرك قادمة من نواكشوط للقبض عليهما بعد حادثة توزيع المنشور هذا.. قال:" دخلنا منزل أهل خوباه مساء فهرعت إلينا إحدى البنات قائلة إن رسالة وصلت مساء اليوم فيها أمرٌ بالقبض عليكما.. و لذلك ينبغي أن تغادرا المدينة على الفور..عند ذلك طلبنا منها أن تزودنا ببعض السجائر.. ففعلت.. و توجهنا شمالا من المدينة حيث قضينا ليلتنا قرب{ إكيكه} عند حي بدوي موهمين من نلتقيهم أننا نبحث عن ضالة إبل.. و في الصباح واصلنا السير شمالا.. و ما كادت تمر ليلتان حتى نفد ما عندنا من السجائر.. فقال ديدي إنه لا بد لنا من الأوبة إلى المدينة و لو كلف ذلك خلوده في السجن... كان شجاعا و عنيدا... توجهنا جنوبا إلى المدينة و ما كدنا نصل{ ريحانات} حتى شاهدنا سيارة تحمل هوائي راديو .. فعرفنا أنها تابعة لأحد الأجهزة الأمنية.. فاختفينا خلف بعض الأشجار حتى تجاوزتنا السيارة .. ثم تابعنا مسيرنا حتى وصلنا مضارب أهل إطفيل عند { بو إزبيله}.. و كنا في غاية العطش.. فوجدنا امرأة قدمت لنا ماء ملوثا .. فهاجمها ديدي و أراد التشاجر معها.. فأخذته من يده .. و ذهبنا... و في صباح اليوم الموالي، يقول سيدي، كنا قد وزعنا منشورات في المدينة حتى وضعنا بعضا منها في السيارة التي أتت للبحث عنا..."
كان سيدي ولد أعمر من هؤلاء المعلمين الذين يتميزون بحسن الخط و المهارة في الرسم.. أتذكر أنه كان يدرسنا في السنة الأولى من التعليم الابتدائي.. و كان يزين جدران المدرسة برسوم رائعة.. و لكنه لم يُكمل معنا تلك السنة فخلفه شقيقه أحمد للديد.. الذي كان أكثر هدوءا منه و أكثر مجاملة لنا...
كان قسمنا في المذرذره مختلطا بامتياز.. إلا أننا كنا نجلس حسب المكان الذي يحلو لكل واحد منا.. فقد كنت أجلس مع الدكتور أحمدو ولد جدأم و المدير إحمدناه ولد خطري.. و كانت لاله بنت سيدي يعرف تجلس مع ابن عمها باب، رحمة الله عليه، و تجلس لم بنت عبد الله مع ابن أختها البو ولد أحمد و ابن خالتها لعمر ولد إباه ولد سيكِه و يجلس موسى ولد امبيريك مع عبدو ولد خيرات و محمودي ولد الزايد، مجموعة في غاية الهدوء... و يجلس آب ولد محمد مع شقيقه و يجلس أحمد ولد إشدو مع شقيه أحمدو، رحمه الله، و يجلس شيخاني ولد عبد اللطيف، رحمه الله، مع إدي جيكو و تجلس إغلانه بنت الولي مع لبابه بنت الميداح و فاطمة بنت المختار إسلامه، رحمها الله.. و تجلس مريم تيام مع السالكه بنت علي ولد الصبار.. و أحيانا مع زينب بنت شداد، شيبوبه.. و في الطاولة الأخيرة تجلس السالمة بنت سيدي مع ما اتموت بنت بلال.. و كانتا قد تشاجرتا في حصة سيلا.. و ما كدنا نحجز بينهما حتى كانت السالمه قد ضربت الطاولة برأس ما اتموت.. و يجلس إتاه ولد اليدالي مع إمين ولد حامد و المهندس أحمدو ولد إشاه .. إدويه...
كنا نتبارى في مواد الفرنسية و الحساب.. و نحن في السنة الرابعة .. أما في السنة الخامسة فصرنا نتبارز في الإعراب و النحو.. و ذات يوم استوقفنا ذلك الطفل الوسيم، براق الوجه، حسنُ الثياب.. كان، على ما يبدو في سننا، و لكنه من تلامذة السنة الثالثة.. أرانا شكلا هندسيا.. و قال لنا:" نريد من يرسم لنا هذا الشكل دون أن يرفع قلمه عن الورقة و دون إعادة خط.."
كان الشكل عبارة عن متوازي مستطيلات محاطا في جوانبه الأربع بأربعة أنصاف دوائر.. قال بعض التلاميذ إن هذا التحدي من وضع الرئيس السنغالي ليوبولد سيدار سنغور.. سألت عن الطفل فقيل لي إنه أمد ول أمير أو سيد أحمد ولد أحمد سالم الذي هو الاسم الإداري للدكتور و الباحث الشهير سيد أحمد الأمير.. لم يكن منزله بعيدا منا.. و كان من التلاميذ المتفوقين في قسمه.. كنا نسير على ذات الشارع عندما نعود من المدرسة فنمر أمام منزل أهل إمن ولد أبوبكرن و نتابع حتى نصل قرب منزل اهل إبريهم.. في عمق حي {مالغاش..} .. فيعرج أمدْ إلى منزل أهله ونتابع نحن..
كانت تعلوه السكينة والوقار.. لم يُر متشاجرا مع أحدٍ.. و لم يكن دوما ضحية عقاب أحد المدرسين.. كانت دفاتره نظيفة .. و كان يعتني بها مع أن خطه كان متوسطا...
نجح أمدْ في مسابقة الثانوية الفنية.. و كان من تلامذتها اللامعين.. ثم خاض فجأة امتحان البكالوريا شعبة الآداب العصرية العربية و نجح في الترتيب الأول على المستوى الوطني.. و ينكِت صديقنا لمهاب ولد إنويصري على ذلك فيقول: " أرجو الله ألا يحرمني من{ سنيم} كما حرم منها أمدْ.. فبعد أن كان من تلامذة الثانوية الفنية خاض امتحان بكالوريا أدبية و حُرم من هذه الشركة التي توظف خريجي الثانوية الفنية....."..
كان بعض أصدقائنا استفزازيين مع ضعف بنيتهم الجسمية، أحيانا.. و امتلاء أجسامهم أحيانا أخرى.. كنا نعير هؤلاء و نصفهم بكلمة {إنبوخري}..
لم نكن نخاف من هؤلاء.. بل كنا نتحداهم.. عندما نمر أمام منزل أهل دهابو قلما ننجو من استفزاز محمد، ابنهم، لنا.. و لكننا كنا نحترم أباه.. نظرا لوقاره و احترامه للجميع.. خلافا للمراكشي.. الذي طاردنا ليلة و هو يخاطب المذكر بضمير المؤنث..
مرة خاطب أيده و قد ردَ له نوعية من الشاي لم تعجب أيده.. فقال له المراكشي: " آن و إنتيَ، يا أيده، اتوفينا.." فرد عليه أيده بقوله: " توفيتَ أنت إن شاء الله.."
كان المراكشي من التجار المغاربة الذي استقروا في المذرذره زمنا طويلا.. و لكنه احتفظ بلغته الدارجة.. و بزيه الشلحي من قفطان و طربوش.. كانت البقية القليلة من أسنانه صفراء.. و كان حليق اللحية و الشارب .. في الغالب.... يتواصل.