دقة - حياد - موضوعية

في الأساطير السعودية والقطرية

2017-06-10 21:29:06

لا عِلمَ لي حالياً بفترة كان فيها المواطِن العربي أقلّ فهماً للسياسة مما هو عليه الآن. وهذا مُثيرٌ للإحباط؛ فقد زعمت التقدُّمية التاريخية أن التقادُم آتٍ بالوعي للجميع؛

.

وأن ما كان يحدُثُ في السابِق بسبب جهل المواطِن لم يعُد قابلاً للإمكان اليوم. والواقِع أن الجماهير العربية في عصر النهضة وأواخر العهد العثماني كانت أفهَم للواقِع مما هي عليه اليوم. ومن المُحبِط في الصراع القطري-السعودي، الذي تجيّشَ فيه تقريباً كلّ من يحمل القول والفِعل، أن جزءاً منه هو صِراعٌ على الوعي، وبين القنوات التي تبثُّ "الوعي". ومن المفترض أن هذا السوق الحُرّْ بين هذه القنوات يُنتِجُ الحقيقة؛ فالحقيقة- على زعم السوق الحرّْ- هي تدافُع وتباين الخيارات. ولكن هذا الكَمّْ من القنوات العربية المؤلّفة بالألوف لا يُنتِجُ الحقيقة؛ واقصى ما يُنتِجُه هو الهوليغانز من المشجِّعين العنيفين والشتّاميين والإحراقيين. وما يبدو في صراعات المُشجِّعين أن أغلبَهم لا يفهم المعمعة أصلاً. ولكن التشجيع الكروي هو أقصى حالات النعصّب، ذلك أنّه يشجِّع على الهوية، لا على الأداء. وبالتالي فهو عشائري، وليس مهتماً بالتحليل والنقد والحقيقة؛ وإنما ينصُر فريقَه ظالماً ومظلوماً (ليس بالوصفة النبوية طبعاً).

وبطبيعة الحال فإن مثقّفي السياسة في كِلا الطرفيْن لا يكتفيان بهذا الوعي العضوي، وإنما يُنتِجان سرديات للاصطفاف. فالخندق السعودي، الذي أوقَد الحرب في سوريا واليمن ودعم العنف ضدّ المدنيين في مصر (ومن قبلها في الجزائر في اليمن في الستينيات) والذي يُنتِج الخطاب الحروبي منذ مطلع القرن العشرين ويُشارِك في كلّ العنف السياسي (من البوسنة وصربيا حى روسيا) يزعَمُ أنه إنما يُحارِبُ في كلّ هذا العنف القطري، لا غيرَه. والعُنف السياسي القطري حقيقة لا يُنكِرُها إلاّ متعصِّب، فقطر دعمت الحركات الجهادوية في ليبيا واليمن وسوريا. وكما تقول اليافِطة الفرنسية الشهيرة فإن "قطر تدعم باري سان جرمان والإرهاب"؛ ولكنّها دون العنف السعودي. والواقِع أن عُنفاهما يصطدِمان في ليبيا وفيما مضى في سوريا، وربما في مصر؛ وقد تعاونا لوقتٍ في اليمن، إلى أن بدأ القطريون في اكتشاف فرصٍ جديدة لإزعاج الإماراتيين باليمن خصوصاً.

في المقابل يزعم الخِطاب القطري أن قَطر تؤتى من خطِّها المُقاوِم. ولا شكّ أن السعودية والإمارات مع نزع نفوذ قطر في فلسطين وإزاحة حماس التي أصبح قوّة معنوية لقطر. ولكن قطر ليست دولة مقاومة إلاّ لدى ممنوحيها ومن سوّق إليه هؤلاء دعايتَها. والواقِع أن المعطيات المتوفِّرة تُشير إلى أن قطر لم تدعم فلسطين إلاّ بثلاثين مليون دولار وهي ليست أموال تسليح ومقاومة بل أموال إعمار واستشفاءات. وقد كان لهذا بالغ الاثرفي تحويل "حماس" وهي حركة مقاومة، إلى حركة سيادة وسلام، بل ولجم المقاومات الأكثر راديكالية ضدّ إسرائيل، كـ"الجِهاد الإسلامي" مثلاً. بل وقد تحوّل قياديون حمساويون بفعل المال القطري إلى مقاوِلون. أما "حماس المُقاوِمة"ن المُقاوِلة، فهي مشروع أهلي، وغالباً مدعومٌ من إيران وحزب الله. وليس معنى هذا أن قطر لا تُنفِق في السلاّح؛ فهي قد بذلت أكثر من مليار دولار في سوريا. وهي أموالٌ ذهبت في الحرب الأهلية وذُبِحَ بها الأولوف. وقد بذلت مقابل ذلك كذلك في ليبيا. ومن أسباب إسقاط القذافي طبعاً مشروع الطموح بقيادة العالم العربي، ولكن أيضاً من أسبابه سُخريتَه من أمير قطر في قمة عربية. وأكثرية هذه الأموال ذهب في الصغائر.

ومن أساطير هذا الإصطفاف الزعم أن السعودية متأمرِكة (ولا جِدال في هذا) بينما أن قطر مُقاوِمة. وهنا مربط الفرس. فإيواء قطر للعسكر الأميركي أكبر حتّى من إيواء السعودية لها. وتأمرُّك آل سعود معروف منذ أن تعشّى روزفلت مع عبد العزيز آل سعود بنهاية الحرب العالمية الثانية. ولكن معظم المجازر التي قامَ بها الأميركان في العراق وأفغانستان وسوريا واليمن جاءت من قواعِدها في قطر. والواقِع أن جزءاً من الصراع بين الدّولتين يتعلّق بنيل الحُظوة من أميركا. والناظِر في إعلامِهما وديبلوماسيتيهما هذه الايام يجد تنازُع التوأميْن على الرضاعة من ثدي البابا ترامب؛ وليس حرباً بارِدة نصفها أميركي ونصفها غير متأمرِّك. وأميركا هي الرابح الأكبر والصراع عليها. ومن الموحي أنها شبّ غداة زياردة ترامب للمنطِقة.

لهذه المواجهة أساطير كثيرة. وربّما لا نعرِف الأسباب الحقيقية كلّها للصراع. ومشكلة التأريخ المعاصِر أنه يأتي على مرحلتيْن: مرحلة الأساطير وهو ما تقوم به الصحافة والمتمصلِحة؛ ثم مرحلة التأريخ البحثي الجادّْ، الذي ينظر في الدلائل والوثائق. وذلك هو بومة مينيرفا. كما يقول كاينز فـ"في غضون ذلك نكون قد مِتنا كلّنا".

وما يهمُّ حالياً أنّنا أمام صراع وهابيتيْن. وهذا أهّم من مركزَة "الإخوان" فالإخوان لم يغدو غير حركة مُجوقَلة وبلاطية ومبعوثة (بأي المعنيَيْن شئتَِ)، إضافة إلى أنها ليست أبداً أحادية أو ذات منحى واحِد. وأكثرية الإخوانيات- وبالأخصِّ في المغرب العربي- يقفِز من السفينة. وكان بنديكت أندرسون- الذي يُحبّه ويؤوِّلُه عزمي بشارة- قد أشار إلى صراع الماركسيات (فيتنام وكمبوديا) كحقيقة لسيادة الدولة الوطنية. وقد شاهدنا صراع البعثيات (سوريا والعراق) كنتيجة لهذا الاحتراب. والآن فإننا نُشاهِد صراع الوهابيات.

وكما قيل عن حرب شَرْبُبّة الموريتانية في القرن السابع عشر فإنه كان "فيها إثمٌ كبيرٌ ومنافِع للناس".

عن الصفحة الشخصية للكاتب عباس ولد برهام

تابعونا على الشبكات الاجتماعية