دقة - حياد - موضوعية

كلمة د. موسى ابن حرمة الله بمناسبة تأبين شقيقه الشيخ

2017-05-30 00:13:05

ألقيت الكلمة مساء الخميس 25 مايو 2017 بمناسبة الأمسية التي نظمتها كلية العلوم القانونية والاقتصادية بجامعة نواكشوط تأبينا للدكتور الشيخ ابن حرمة الله.

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف المرسلين

رحل عنَّا مطلعَ الفجر، يومَ الجمعة، وهو يَمْشي مِشْيَتَه المعهودة لأداء صلاة الصبح.

.

لم يكن يعلم أنَّ أجَلَه المحتوم قد حان، وأنه يخطو خُطواتِه الأخيرةَإلى المسجد.

أحدث موتُه المفاجئ هزَّةً عنيفة، وارتجَّت له بيوتٌ عديدة. فمنهم من اختنقتْ عَبْرتُه، ومنهم من انهمرت دمْعَتُه؛ وما لبثت باحاتُ المستشفى وأبوابُه أنْ غَصَّت بالناس، قَريبِـهم وغَريبِـهم،يتساءلون، وقد عَلَتْ وجوهَهُم الكآبةُ والحُزن، واعتَصَر قلوبَهم الألَم،وعقَدَتْ ألسِنَتَهم الدهشة، يتذاكرون مآثر فقيدٍ حفِلت حياته بمختلف المحامد والمآثر.

كان، رحمه الله، مثالا للتواضع والزهد، راغبا عن مباهج الدنيا وزخارفها.وكان من قلائل الرجال الذين لا تستهويهم المادَّة ومُغرياتها، ولاينغمسون في المفاسد وغواياتها. كان همُّه طِلاب المعالي والابتعاد عنالسفاسف.

ظل الرجل، رغم ما يحظى به من علو المنزلة وسمو المكانة، مواطنا بسيطا، لا يملك هاتفا محمولا، ولا يرتدِي إلا "درَّاعة" بسيطة من "الشَّكَّة". وكان يتولى بنفسه شراء حاجات المنزل ويساعد الخدم في أعمالهم.

لقد كان مثاليا بثقافته وتقواه وعبادته ونزاهته واستقامته وأخلاقه الراقية.

ما إن توفاه الله حتى انثالت الشهادات وانكشفت جوانب من أعمال البِرّ التي كان يُخفيها خشية الرياء. كان موقنا بأن الآخرة هي الباقية، فولَّى ظهرَه لمتاع الفانية؛ واستقام على ذلك ومات عليه. كان يقضي جُلَّوقته، إما معتكفا في بيوت الله، أو متفرّغا للكتابة والتدريس بكلية الحقوق. كانت حياته مضبوطة منظمة، تقتصر خرجاته على صِلَةالأرحام، ولم يكن له من تزاور الأصحاب إلا اليسير، يعتزل مجالس اللغو، ويمقت المباهاة وحب الظهور. وكان إلى ذلك جدِّيا في العمل متفانيا في إتقانه.

نال أعلى مراتب الأستاذية بعد حصوله على دكتوراه الدولة في الحقوق من جامعة السوربون (باريس الثانية) ذات الصيت والشهرة. وأوصت لجنة المناقشة بطباعة أطروحته، المؤلَّفة من مجلدين والحائزة على تقدير "ممتاز"، ونشرها لدى المكتبة العامة للحقوق وفقه القضاء.

كان من أبرز المختصين بالقانون الجنائي في موريتانيا، وربما كان أبرزهم على الإطلاق. وقد أضحت أعماله مرجعا في مجال القانون والإجراءات الجنائية، لا يستغني عنه الطلاب والقضاة والمحامونوضباط الشرطة القضائية.

بعد ممارسته الناجحة لمهنة المحاماة، ارتأى التخلي عن هذه المهنة بدوافع أخلاقية. ولم يُرافع منذ عقد من الزمن عن أية قضية؛ ولم يبق له من الصلة بالحقل إلا التصويت على نقيب المكتب الوطني للمحامين، حين يُدعى لذلك.

وعلى الرغم من اهتمام الفقيد بمستقبل البلاد، الذي كان شغله الشاغل، إلا أنه لم يكن مرتبطا بتوجه سياسي معيّن، ولم يؤْثر عنه الانتماء لأي حزب سياسي، لا من الأغلبية ولا من المعارضة. وفي عهد نظام سابق، عُرض عليه منصبُ وزير العدل، حافظِ الخواتم، مع مصاحبة رئيس الدولة آنذاك في زيارة له إلى مدينة أبي تلميت، لكنه رفض العرض بأدب وامتنع من مرافقة الرئيس، رغم إلحاح الأقارب عليه في ذلك.

كان يسيرُ خُفْيَة تحت ظلام الليل، وعبر الأزقة الضيقة وغير المُنارة،ليوزع المؤنة والملابس على فقراء الأحياء الهشَّة.

ولعل من أجَلِّ أعمال المرحوم، بإذن الله تعلى، تكوينه لجيلين على الأقلمن محامي البلاد وقضاتها وقانونييها، ممن يتولون الآن المناصب العليا في الدولة. ولطالما أسْدى النصيحة والعَون لمن يطلبون رأيه في المسائل القانونية حتى ينالوا حقوقهم كاملة غير منقوصة. وقد أدّى ذلك العمل التطوعي إلى توافد الأفواج الغفيرة من أجل تعزيتنا في وفاته، وقد تنوّعت فئاتهم من أقارب وأصدقاء وزملاء عمل ورسميينووجهاء ومن عوام الناس.

هذا وإن أسرة الفقيد لتغتنم هذه السانحة لتُعَبِّر عن شكرها لكم جميعا وعرفانها بالجميل. كما تحرص على أن تشكر، بوجه خاص،معالي وزير التعليم العالي ورئيس الجامعة، وعميد كلية القانون وهيئة التدريس والطلاب، دون أن تنسى المحامين وزملاء الفقيد.

وإننا لنرجو أن يتم سريعا إلقاء القبض والمعاقبة الصارمة لمرتكب أو مرتكبي هذه الجريمة الدنيئة، ونسأله سبحانه وتعلى أن يرحم الفقيد ويغفر ذنبه ويبارك في عقبه وذويه. وإنا لله وإنا إليه راجعون.

عن الأسرة، موسى حرمة الله، نواكشوط يوم 25 مايو 2017.

تابعونا على الشبكات الاجتماعية