تمنيناه في المشرق فجاء الخبر من المغرب، إذ في حين تلوك الألسنة أخبار وروايات التعذيب في أغلب بلدان المشرق، فإن وكالات الأنباء نقلت إلينا أخبار موافقة البرلمان الموريتاني على إصدار قانون لمناهضة التعذيب. صحيح أن السيناريو واحد تقريباً عندنا وعندهم، إلا أن المآلات اختلفت
..أتحدث عن رياح الربيع التي هبت على موريتانيا في ٢٥ فبراير عام ٢٠١١، بعد شهر بالتمام والكمال من انطلاق الثورة في مصر. لكن المؤسسة العسكرية المهيمنة حاصرت حراك الشباب وأفشلته، وكانت قيادة تلك المؤسسة قد انقلبت على أول رئيس مدني في تاريخ البلاد تم انتخابه ديمقراطيا في لحظة استثنائية، هو سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله الذي فاز في الانتخابات التي جرت عام ٢٠٠٧، إلا أن قائد الحرس الجمهوري انقلب عليه بعد ١٥ شهرا من توليه السلطة، وحل محله في السادس من أغسطس عام ٢٠٠٨، وتحول الجنرال محمد ولد عبد العزيز إلى رئيس للبلاد، حيث أقام نظاما استبداديا له واجهته الديمقراطية. واستخدم ذلك النظام ما نعرفه من وسائل القمع التي من بينها التعذيب والنفي والاختفاء القسري. وما بقي شيء من ذلك سرا، لأن تقارير النشطاء الحقوقيين وبيانات القوى السياسية المعارضة لم تستسلم للترهيب، وسجلت مختلف الانتهاكات التي أقدم عليها النظام. واشتهر تقرير أعدته منظمة العفو الدولية تحدث عن التعذيب في مراكز الشرطة والسجون، وأشار إلى حالات تم توثيقها في عامي ٢٠١٢ و٢٠١٣.
كما تحدثت تقارير أخرى عن ترحيل عدد من السلفيين واحتجازهم في قاعدة عسكرية في شمال البلاد.
هذه التقارير كان لها صداها في البرلمان الموريتاني، وهو ما تمثل في إعداد قانون جديد تبنته المعارضة وصادقت عليه غرفة النواب بالبرلمان، استهدف وضع حد للانتهاكات وإنشاء آلية وطنية للوقاية منها.
صنف القانون التعذيب بحسبانه جريمة ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم. ونص على عقوبات تصل أحيانا إلى الحرمان من الحقوق المدنية، والسجن المؤبد للذين يقومون بالتعذيب، سواء كانوا من المنتسبين لقوات الأمن أو الجيش أو ممن يحملون صفة عمومية أو يتقلدون وظائف حكومية. وفيما خص الاختفاء القسري الذي يتعرض له النشطاء نص القانون الجديد على عقوبة تصل إلى السجن عشرين عاما لكل من يعتقل شخصا موقوفا أو مدانا في مكان غير محدد بالقانون أنه مكان اعتقال.
أنشأ القانون أيضا آلية وطنية للوقاية من التعذيب، تعنى بمراقبة أوضاع السجون وأماكن الاعتقال المختلفة، تتشكل من نقابات المحامين والأطباء ومنظمات المجتمع المدني وأساتذة الجامعات، وتتمتع بصلاحيات واسعة في مجال مكافحة التعذيب والوقوف في وجه ممارسيه، سواء من خلال تهديدهم بالعقاب أو من خلال حماية المرؤوسين الذين يرفضون تنفيذ أوامر التعذيب.
ذكر نقيب المحامين الموريتانيين الشيخ ولد حندي أن القانون أضاف ضمانات جديدة من بينها أنه «يحق لمن حرم من الحرية أن تطلع أسرته أو أي أحد يختاره على واقعة توقيفه، وله أن يتصل بمحاميه. ويجري الكشف عليه بواسطة طبيب، على أن تدون جميع المعلومات المتعلقة به في سجله بمكان التوقيف. من تلك الضمانات أيضا تخويل القاضي سلطة التحقيق على الفور في أي واقعة يستلزمها سير العدالة ورأت المحكمة أن هناك أسبابا لذلك، حتى لو لم يطلب المتضرر التحقيق. ثمة ضمانة ثالثة أشرت إليها توا، تمثلت في حظر توقيع أي عقوبات تأديبية على المرؤوسين إذا ما رفضوا تنفيذ أوامر التعذيب التي يصدرها رؤساؤهم، ولا يمكن الاحتجاج في ذلك بالتعليمات، فضلا عن أنه لا يمكن الاعتداد بأي معلومات يتم الحصول عليها بواسطة التعذيب.
ثمة بلدان تحترم حقوق الإنسان وتكتفي بتجريم التعذيب دون أن تفصل في ذلك، باعتبار أنه مجرد تحصيل حاصل، لأن احترام كرامة الإنسان أصبح قيمة مستقرة ولأن المجتمع بات من القوة، بحيث صار بمقدوره أن يقطع الطريق على أي ممارسات من ذلك القبيل من خلال مؤسساته المنتخبة. أما أغلب دول عالمنا العربي فهي تنص في دساتيرها وقوانينها على تجريم التعذيب ورفضه، في حين أن الممارسات التي تتم على أرض الواقع تمضي في اتجاه معاكس تماما، حتى أزعم أن الجميع في ذلك الهم سواء. والاختلاف الحاصل في سياسات الدول هو المدى الذي تذهب إليه الانتهاكات. أعني أنه خلاف في الدرجة فقط وليس في النوع، وذلك راجع إلى عاملين أساسيين، هما غياب الديمقراطية، الأمر الذي أعفى السلطات من أي حساب، ثم ضعف المجتمعات العربية وافتقادها إلى مؤسسات فاعلة تعبر عنها.
هذه الخلفية تدعوني إلى الترحيب الحذر بالقانون الأخير الذي صدر في موريتانيا، ذلك أنني أتمنى أن تترجم بنوده إلى ممارسة على أرض الواقع. لنا أن نتفاءل بهذه الخطوة وأن نحتفي بها ونشجعها، لكننا ينبغي أن ننتظر اختبار تطبيقه من خلال الممارسات العملية، ذلك أن التعذيب على قبحه ليس جريمة الأجهزة القمعية والأمنية وحدها، وإنما هو في جوهره تطبيق لسياسة النظام القابض على السلطة، لذلك أصاب بعض أهل القانون حين اعتبروا أن التعذيب جريمة نظام وليس جريرة الجلادين وحدهم. وهو ما يعني أنه مشكلة سياسية بأكثر منها حقوقية، وإذا صح ذلك التحليل فهو يعني أنه ما لم يتغير النظام أو يغير من سياساته، فلن يحول القانون دون استمرار التعذيب أو الاحتيال على تنفيذه.
إذا سألتني بعد ذلك لماذا الترحيب بالتصديق على القانون في موريتانيا رغم استمرار نظامها، فردي أن لديَّ في ذلك ثلاثة أسباب. الأول: أن وجود القانون خير من عدمه، فضلا عن أنه يمثل مرجعية تمكن النشطاء والحقوقيين الموريتانيين من الاحتجاج بها. الثاني: أنني فعلت ذلك من باب التمني، إعمالا للقول المأثور "تفاءلوا بالخير تجدوه". الثالث: أنني أردت التذكير بأننا في العالم العربي نظل بحاجة إلى مثل ذلك القانون، باعتبار أن الذكرى تنفع المؤمنين، حتى إذا كانوا ظلمة ومفترين.