سمحوا لي إن طال هذا المقال عن المألوف لديَّ، فهو قراءة فى خرجة عزيزية من ساعتين ونصف.
لقد حال سفر طويل بيني و المتابعة المباشرة للقاء عزيز مع مجموعة مختارة من الصحافة الوطنية.
البارحة اطَّلعتُ على تسجيل لهذا اللقاء وأعدته مرتين، فخرجتُ منه بالملاحظات التالية:
• كان عزيز متوترا – منذ البداية- على الرغم من أن أحدًا ما قد يكون نصحه بالمحافظة على برودة أعصابه فى مواجهة أسئلة قد يكون بعضها مستفزا، وهو ما قابله عزيز باصطناع نُكَت وسخرية تُوهم بأريحية ما لبث أن تحلل منها بصرامة العسكري الذي لا يقبل الجدال، والذي ينهر محاوريه بأسلوب بعيد من اللباقة.
• كان مشتت الذهن والتركيز يطلب إعادة كل سؤال مرتين وربما أكثر، وإن كان السؤال متفرعا عجز عن تذكُّر ما بعد جملته الأولى.
• لم تكن إشادة عزيز بالجيش الوطني خارجة عن سياق الترقيات المتلاحقة التي توشك أن تجعل عدد الضباط السامين والضباط أكثر من عدد ضباط الصف والجنود، و أغلب هذه الترقيات مشابهة لتلك التي حصل عليها عزيز من الرئيس حسن الذكر سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، وبقية القصة معروفة.
• كانت الرسالة الوحيدة للمؤتمر هي قرار عزيز المضي إلى استفتاء شعبي اعتمادا على المادة38 من الدستور.
• حاول عزيز امتصاص صدمة رفض الشيوخ لمقترح تعديل الدستور، وبدا مُهادِنا لثوار المجلس فى أول حديثه، ثم عادت حليمته إلى عادتها القديمة فكال لهم الشتائم ونعتهم بالخروج على الأخلاق والمروءة، فضاعت عليه فرصة استثمار الأمر كظاهرة صحية فى التعبير الديمقراطي، وعمَّقَ الشرخ فى علاقته بأغلبيته.
• بقية المؤتمر الصحفي كانت مليئة بالمغالطات والعنتريات المعبرة عن تضخم الأنا عند الرجل:
1- تبجح بأنه أنشأ كتيبة الحرس الرئاسي : إن لم يكن الرئيس الأسبق معاوية ولد سيد أحمد الطايع هو صاحب الفكرة فقد باركها على الأقل، وسخَّرَ فيها عزيز زهرة شبابه ووسائل الجيش المادية ونخبته البشرية للدفاع –تحت المكيفات-عن شخص الرئيس، وعندما كلفه هذا الأخير بملاحقة الجماعات المسلحة فى (لمغيطي ) حيث لا تبريد ولا معاشات جنود ، انقلب عليه ووصفه بالفاسد والدكتاتوري.
2- حديثه عن الجيش كان ذمًّا بما يشبه المدح ، ويمكن اختصاره فى عبارة خليله الراحل: (من أنتم؟): أنا الذي صنعتكم ومنحتكم الأوسمة والنياشين والأنواط، ولم تكونوا قبلي شيئا يُذكر. ( حتى بوكاسا فى عز طغيانه لم يتفوه بمثل هذا الكلام).
3- قوله بعدم خضوعه للجهات الأجنبية كلام باطل: فقد أرسل رسله إلى فرنسا وأمريكا للإعتراف بنظامه مقابل تنازلات اقتصادية وصفقات تحت الطاولة، وأبدى استعداده للتراجع عن تجميد العلاقات مع إسرائيل لو بادر اللوبي اليهودي إلى دعم انقلابه على الرئيس المنتخب سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله والإعتراف بنظامه (محاضر الإجتماعات موجودة وتسريبات ويكليكس معروفة).
4- ثم إنه أخبر الوسيط السنغالي عبد الله واد بأنه سيقلب الطاولة بمفاوضات داكار ويتوجه إلى انتخابات أحادية لأن الفرنسيين أعطوه ضمانات بالإعتراف بنتائج الإقتراع، فنصحه الرئيس السنغالي السابق بأن لا يسقط فى هذا الفخ المكشوف ( ومع ذلك يقول لنا إنه لا يقيم وزنا للضغوط الخارجية ولا للعلاقات مع الشركاء والحلفاء وكلها مبنية على المصالح).
5- بدا عزيز كمن يعيش فى قوقعة خاصة، فهو ليس معنيا بنظرة الآخرين وتقييمهم لأوضاع بلاده، فى معرض تعليقه على سحب الخارجية الفرنسية لمدينتيْ شنقيط ووادان من المنطقة الحمراء المحظورة على الرعايا الفرنسيين. أية سطحية هذه؟ ثم إن عزيز طلب من الفرنسيين مباشرة وعبر الخارجية والسفارة الموريتانية فى باريس "مراجعة قرارهم نظرا لزوال المخاطر عن الشمال الموريتاني"، وهذا ليس عارا يتبرأ منه رئيس دولة، بل هو واجبه وواجب حكومته.
6- إن من لا يقيم وزنا للتأثير الخارجي لا يبرر تغيير النشيد بأنه تخليد للمقاومة ضد المستعمر الفرنسي (مقابلة عزيز مع فرانس 24 بالعربية)، وبأنه مجرد انسجام مع التطور من مرحلة ركوب الجمل إلى مرحلة ركوب السيارة (نفس المقابلة باللغة الفرنسية).
7- كان رد عزيز خجولا وغير منطقي بخصوص العلاقات مع المغرب، فخلط حقا بباطل عندما قال إن المغرب ليس له سفير فى موريتانيا حاليا. ويعلم عزيز علم اليقين أن السفير المغربي الراحل عبد الرحمن بنعمر ظل يتربع على عرش عمادة السلك الدبلوماسي فى انواكشوط لفترة طويلة حتى وافته المنية شهر دجمبر الماضي، بينما قرر عزيز – منذ سنوات- تخفيض تمثيل موريتانيا الدبلوماسي فى المغرب إلى رتبة مستشار قائم بالأعمال بالنيابة، بعد سلسلة من السفراء الوزراء (الشيخ العافية، ولد الطلبة، ولد معاوية)...ولم يُخبرنا عزيز الحقيقة كعادته.
8- وبخصوص قضية المسيء للجناب النبوي الطاهر( وهي بالمناسبة قضية بسيطة بالنسبة لعزيز) فإن مسارها يذكرني بمسار قضية عبد الله السنوسي الذي بيع فى المزاد العلني وتفاصيل صفقته معلومة. فكِلا الشخصين طلبته جهات خارجية لأسباب مختلفة طبعا، و كثرة الطالبين ترفع المزاد الذي لا يزال مفتوحا بالنسبة للمسيء، وإذا كانت قضية السنوسي معقدة فإن فضية المسيء (بسيطة) كما يراها عزيز.
9- أشار عزيز إلى أنه لن يترك السياسة ولن يهاجر عن موريتانيا وأنه سوف "يدعم" مرشحا للرئاسيات القادمة، كما قال وزير دفاعه أمام مجلس الشيوخ: " إن الأغلبية التي تسعى إلى تعديل الدستور ستبقى لفترة طويلة... وإن عزيز لا يمنعه الدستور من الترشح سنة 2024 ولا 2029 لأنه لم يبلغ من العمر إلا 60 سنة" .
لقد كان وزير الدفاع حصيفا عندما كرر كلمة "إن شاء الله"، أما عزيز فقد ألقى خطبة الوداع أمام الصحافة، دون أن يقول : " يا أيها الناس...إني لا أدري لعلى لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا". أطال الله عمر عزيز ومتعه بالصحة الفكرية والعقلية، ومتَّعنا بوطن لا يحكمه ولا يعيث فيه فسادا وغطرسة.