دقة - حياد - موضوعية

تفاصيل محاكمة وإعدام الأمير المختارولد اعلي الكوري(ح2)

2017-03-17 04:18:32

قبل الدخول في فقرات الترجمة الجزلة التي قام بها الأستاذ الكبير سيدي ولد متالي حول تفاصيل اعتقال ومحاكمة وإعدام الأمير التروزي المختار ولد امحمد ولد اعلي الكوري ولد أعمر ولد اعلي، نرى من الضروري أن نوضح للقارئ الظروف والملابسات السياسية والصراعات السلطوية المحيطة بحياة هذا الأمير اليافع الذي تربى يتيما وسعى إلى الإمارة وهو مراهق.

.


لقد حكمت إمارة الترارزه أسرتان من عقب اعلي شنظوره ولد هدي ولد أحمد بن دامان. فبعد أحمد بن دامان، مؤسس الإمارة إثر  معركة انتيتام سنة 1631، والمتوفى سنة 1636، تأمّر ابنه هدي ما بين 1636 و 1684، ثم تولى بعده الإمارة ابنه السيد ثم بعده اخوه أعمر آكجيل ليصل الحكم إلى اعلي شنظوره الذي تأمر من سنة 1703 إلى سنة 1726. وحسب محمد فال ولد بابه وولد أبو مدين فقد تأمر بعد اعلي شنظوره أخوه الشرقي ولد هدي، إلا أن المختار ولد حامدن وبول مارتي يحذفان الشرقي من لائحة أمراء الترارزه، علما بأن خلافة الشرقي لأخيه اعلي شنظوره، على شؤون الإمارة، خلال مقامه في المغرب بحثا عن السند ضد البراكنه، لا يرقى إليها الشك.

بعد اعلي شنظوره، بدأ عهد أهل أعمر ولد اعلي الذي تواصل لمدة 74 سنة (تزيد أو تنقص قليلا حسب الخلاف في تواريخ الوفيات). وقد تميزت إمارة أهل أعمر ولد اعلي بأمور كثيرة، من أهمها أنها لم تشهد انقلابا واحدا لا هادئا ولا دمويا، بل لم يمت من أمرائهم مقتولا غير واحد توفي في معارك خارجية (ضد تحالف بين إمارة البراكنه والدولة الألمامية)، كما أنها الإمارة الوحيدة التي لم تعتمد التوريث الأبوي (أي أن الإمارة وصلت من أعمر ولد اعلي إلى ابنه المختار، لكنها من عهد المختار تعاقبت بين الإخوة وأبناء العمومة (داخل أسرة أهل أعمر ولد اعلي) إلى أن تم الانقلاب على حكمهم.

أول من حكم من أسرة أهل أعمر ولد اعلي هو أعمر نفسه الذي مارس السلطة الأميرية ما بين 1726- 1756، تولى بعده الإمارة أبنه المختار ولد اعمر ولد اعلي الذي حكم ما بين 1756- 1771، وتولى بعده أخوه اعلي الكوري ولد أعمر ولد اعلي الذي حكم ما بين  1771- 1784 (قتله جيش المامي عبد القادر: أحد أمراء الدولة الدينية في فوتاتورو المتحالف مع إمارة البراكنه). تولى بعده الإمارة ابن أخيه محمد الجواد ولد المختار ولد أعمر، وذلك ما بين  1784- 1792، ثم تولى بعده الإمارة أخوه عاليت ولد المختار ولد أعمر في الفترة ما بين 1792- 1794، ثم تولاها بعده أخوه أعمر ولد المختار ولد أعمر ولد اعلي المعروف بـ"أعمر ولد كمبه" الذي حكم ما بين 1794- 1800، وتوفي في زهرة العمر دون أن يترك أي وريث بالغ من جميع أفراد أسرة أهل أعمر ولد اعلي

ثم يصل الحكم، في انقلاب أبيض، إلى أهل المختار الشرقي الذين عـُـرفت إمارتهم بـ"إمارة أهل محمد لحبيب".، وكان أعمر ولد المختار ولد الشرقي ولد هدي أول من حكم منهم في الفترة ما بين 1800-1829.

وكان امحمد ولد اعلي الكوري ولد أعمر ولد اعلي أول بالغ من أسرة أهل أعمر ولد اعلي يقود معارضة مسلحة ضد حكم أعمر ولد المختار (ولد الشرقي)، فحاول، خلال أيام مشهودة، استرداد الحكم، واستنجد في سبيل ذلك بحلفاء من داخل قبيلته، ومن أبناء عمومتهم أولاد دمان، ومن أصهاره إدوعيش خاصة في عهد الأمير محمد ولد امحمد شين.

وتولى الإمارة بعد أعمر ولد المختار ابنه محمد لحبيب الذي حكم في الفترة ما بين 1829-1860، وقتل من قبل أبناء إخوته في محاولة انقلابية فاشلة، ليتولى الحكم من بعده ابنه سيدي ولد محمد لحبيب الذي تأمّر في الفترة ما بين 1860-1871 وسقط قتيلا في انقلاب دبره أخوه أحمد سالم (الأول) ولد محمد لحبيب. وقد عرفت فترة إمارة أحمد سالم، الممتدة لثلاث سنوات، مناوشات ومعارك طاحنة مع أخيه أعلي (ابن اجّمبت: ملكة الوالو) انتهت بقتل الأول في شهر مايو 1873، ليستتب الحكم لأخيه الأمير اعلي ولد محمد لحبيب الذي قتل سنة 1886 في انقلاب دبرته جماعة من أولاد أحمد بن دامان من ضمنها أبناء أخيه خاصة أحمد الديد (الأول) ولد سيدي ولد محمد لحبيب ومحمد فال ولد سيدي ولد محمد لحبيب. وهنا أخذ محمد فال ولد سيدي السلطة الأميرية سنة 1886 في جو مضطرب لم يشهد استقرارا حتى قتل بعد أربع سنوات (سنة 1890) على يد ابن عمه أحمد سالم (الثاني) ولد اعلي (الملقب بياده)، وقيل ان محمد فال تنازل عن الإمارة لعمه أعمر سالم قبل مقتله، وإن تأكد ذلك يكون أعمر سالم قد حكم من 1890 إلى  حين مقتله في إحدى معارك الصراع على السلطة سنة 1893. ثم استتب الأمر للأمير أحمد سالم ولد اعلي (بيّاده) من 1893 حتى اغتيل سنة 1905 على يد جماعة يقودها أحمد الديد (الثاني) ولد محمد فال ولد سيدي ولد محمد لحبيب.

في هذه الفترة بالذات دخلت الإمارة في العهد الفرنسي، فتأمر أحمد سالم ولد ابراهيم السالم وأحمد الديد ولد محمد فال بالتزامن تقريبا، حتى توفي أحمد سالم سنة 1929، لتبقى الإمارة عند أحمد الديد ولد محمد فال ولد سيدي حتى يوم وفاته سنة 1944، ويرثها منه ابنه محمد فال (ولد عمير)، ثم تعود لعقب أحمد سالم ولد ابراهيم السالم (ممثلا أولا في احبيب ولد أحمد سالم).

في هذه الظروف، كانت المصالح الاقتصادية، المتمثلة في تجارة الصمغ وما تدره من ضرائب، وفي الإتاوات والإكرامات الممنوحة من قبل الفرنسيين والوسطاء التجاريين، قد طغت على كل الجوانب الأخرى، فتفكك، شيئا فشيئا، حلف أهل أعمر ولد اعلي تبعا لموازين القوة، وقلّ عددهم هم أنفسهم، ولم تنجح محاولات امحمد ولد اعلي الكوري في استعادة السلطة بالقوة، إلا أن أهل أعمر ولد اعلي، رغم كل ذلك، ظلوا يتمتعون بوزن كبير وبمكانة قوية جعلت حضورهم في الإتاوات والإكرامات بارزا، بل ظلوا يرفضون التنازل عن نصيبهم تحت أي ظرف. في هذا السياق يظهر الشاب المختار ولد امحمد ولد اعلي الكوري الذي ترك له والده أمجادا داخلية، وعلاقات كبيرة خارجية، وأموالا طائلة في عاصمة المصالح الفرنسية الإفريقية: سان الويس.

لقد مات عنه والده وتركه يتيما، فتربى في سان الويس (اندر) حيث عقاره وأمواله، وحيث عايش الفرنسيين (وكان يتكلم الفرنسية بطلاقة، كما كان يلبس الزي الفرنسي بإتقان، ويضع ربطة العنق تماما مثلما يضعها الأوربيون). وقد وصفته وثائق المستعمر بأنه شاب وسيم ذو طباع حضرية راقية لا يتحلى بها أي بيظاني حينها.

وكان هذا الشاب، المولود بين 1810 و1815، يسعى لاسترداد السلطة على خطى والده امحمد ولد اعلي الكوري وأبناء عمومته أولاد أعمر ولد اعلي الذين لم يبق منهم أي بالغ عندما توفي آخر أمرائهم أعمر ولد المختار ولد أعمر ولد اعلي الملقب أعمر ولد كمبه. إلا أن جملة من الظروف لم تساعده في مسعاه، من بينها:

أولا: صغر سنه، فقد بحث عن الإمارة وهو بعد لم يبلغ الـ 18 من العمر.

ثانيا: تفكك القوة التي كانت تساند ذويه من أولاد أحمد بن دمان وأولاد دمان وأخواله إدوعيش الذين أتوا مرتين بخيلهم ورجلهم وقاتلوا في أقصى الجنوب، لكنهم فشلوا في استعادة الحكم لابن ابنتهم وإن انتصروا في إحدى المعركتين اللتين شاركوا فيها إلى جانب والده امحمد وأنصاره الدامانيين: معركة أفجار سنة 1817 ومعركة أباخ (الصطاره) في ذات السنة 1817.

ثالثا: ميول الفرنسيين إلى الأسرة الحاكمة الجديدة لاعتبارات من أهمها أن مصلحتهم تقتضي التعامل مع جهة واحدة وزعيم واحد، بالإضافة إلى ما استشفوا من قلة حظوظ الأسرة الأميرية الأولى في استرجاع عرشها.

رابعا: قبوله للتنازل عن المطالبة بالإمارة (لفقدان السند الداخلي والخارجي)، ورفضه المطلق البات للتنازل عن المصالح والإكرامات التي كانت من حق أجداده على ضفة النهر (كالإتاوات، والتعويضات عن توقف القوارب التجارية والمزايا المادية التي تمنحها سلطات سان الويس)، الأمر الذي شكل مساسا بهيبة الإمارة وبجزء من سلطاتها وبعض مصالحها الحيوية، فكان لابد لها أن "تتصرف" بشكل أو بآخر، خاصة أن الأمير الشاب يعتبر، وربما يعتبر بعض أبناء عمومته المباشرين، أن التنازل عن المزايا الخاصة بهم سيكون بمثابة التخلي عن جزء آخر من أمجادهم أو عن النصيب المتبقي من سيادتهم (بعد أن أجبرتهم الظروف على التخلي عن السلطة).

خامسا: المؤامرات الداخلية والشراك التي وضعت للشاب فوقع فيها دون أن يحسب عواقبها، ومن أبرزها عملية قتل التاجر جاك موليفار: صديق والده وصاحب المكانة الكبيرة لدى الفرنسيين، ما جعل فرنسا تعتبر أنها إن لم تقتل قاتله ستخسر هيبتها وسمعتها لدى سكان المنطقة، فكان لابد لها من استدراج الشاب إلى اندر لتجعل منه مثالا تروع وتردع به كل من يحاول المساس بمواطنيها وحلفائها. وعند القراءة المتأنية لما بين سطور الوثائق الفرنسية، نكتشف أن الإمارة شاركت في عملية الاستدراج تلك لأن الشاب أظهر قدرات فائقة على المنافسة، ولأنه ينبئ بمستقبل واعد قد يهدد أركانها ولربما تمكن، بحنكته وشجاعته وعلاقاته وثرائه المادي وما لديه من مقومات التفاهم مع الفرنسيين، من انتزاع السلطة وإعادة الإمارة إلى نسختها الأولى.

إذن قـُتل التاجر الخلاسي سنة 1831 على يد المختار ولد أمحمد ولد إعلي الكوري، أو على يد أبناء عمومته أولاد أعلي بوشارب، أو على يدهم جميعا (انطلاقا من شهادات مختلفة تم الإدلاء بها خلال جلسات المحاكمة المنعقدة في سان لويس سنة 1832)، أو قتل بحضور الشاب المختار وتمت فبركة التهمة لجره إلى المشنقة (فهو يحرج الإمارة لأنه يطالب بنصيب من الدخل، ويحرجها لأنه مهيأ لقيادة التناوب السياسي، ويحرج فرنسا لأنه يفرض إتاوات وإكرامات مضاعفة على اعتبار أنها تدفع نفس الإتاوات والإكرامات للإمارة، ويحرجها لأنه يشكل قطبا ثانيا، وفرنسا تعتبر أن مصالحها تقتضي التفاوض والتعاطي مع قطب واحد). وهكذا وجهت له التهمة، وحكم عليه بالإعدام، ونفذ فيه الحكم رميا بالرصاص، ليكون بذلك أول بيظاني يحاكم محاكمة عصرية مكتملة الأركان: من رئيس محكمة، مرورا بالقضاة، فممثلي النيابة، إلى المحامين، والشهود، وبذلك يكون أيضا أول بيظاني يصدر عليه حكم بالإعدام وينفذ فيه رميا بالرصاص. علما بأن بعض أعضاء المحكمة أصيبوا بحزن شديد وإحباط كبير إثر تنفيذ الإعدام في الشاب المختار لأنه، بالنسبة لهم، أعدم على خلفية أحداث وقعت وهو بعد لم يصل سن البلوغ القانوني (كان سنة 1931 في حدود الـ 16 من العمر، وإن حاول رئيس المحكمة تقديم أدلة غير مؤصلة على أنه في حدود الـ 21 سنة)، كما يعتبره بعض الفرنسيين من أقرب البيظان إلى نمط حياتهم العصرية، وأنه يتكلم لغتهم بطلاقة، ويمكن التفاهم معه أكثر من غيره، بالإضافة إلى أنه ضحية لمؤامرة تروزية-فرنسية بشعة لم يفهم أبعادها لصغر سنه.

ومهما يكن، فإن ملفه يظل نقطة سوداء في جبين العدالة الفرنسية، سيجد، في يوم من الأيام، من يرفع اللبس عن قضيته ويفكك ألغازها وطلاسمها. كما سيظل مفخرة تروزية لأنه، وإن أنكر التهمة، رفض التنازل عن مصالح ذويه، ورفض المساومة في حقهم على المراسي والمراكز التجارية، ورفض الخضوع لسلطة لا تقبل به شريكا، وذهب إلى مكان الإعدام متماسكا بخطى واثقة حسب شهادات الفرنسيين أنفسهم.

محرر زاوية "تاريخ مغيّب"في صحيفة ناواكشوط

 

 

الحلقة الثانية من تفاصيل الملف حسب ترجمة الأستاذ سيدي ولد متالي

 

...عندما سئل المتهم عن هويته أجاب بأنه يُدعى المختار بن محمد ولد إعلي الكوري.. و أنه من قبيلة بيضان ترارزه... حيث يُقيم عادة.. و أن سنه سبعة عشر عاما، كما يبدو, و أنه أمير و محارب...
بعد قراءة الأمر القانوني المتعلق بالإحالة و قضية الاتهام عرض السيد غيشونه دو كِرانبونه، مفتش المستعمرة و المكلف بمهمة المحامي العام للمملكة، الموضوع كما يلي:
سيداتي..
منذ سبعة عشر شهرا، تقريبا، و في انصرام شهر يونيو 1831 .. عم الحديث في سان لويس عن جريمة.. و شاعت في كل حدب و صوب على ضفاف نهر السنغال.. و هي القول إن البيضان قد اغتالوا جاك ماليفوار... زنجي حر و تاجر في هذه المدينة.. و هو من الرجال الأكثر احتراما بين سكان المستعمرة.. و لم يكتف{ البيضان} بتلك الجريمة وحدها.. و إنما قاموا أيضا بمهاجمة سفينة المسمى مافال، من سكان المستعمرات هو الآخر.. حيث قُتل و أُسر كلُ طاقمه و نُهبت سفينته .. و أغرقت.. و منذ ذلك الوقت نسَب كل من شارك في هذه الأحداث الجبانة فعلها للمختار بن محمد بن إعلي الكوري، الماثل أمامنا.. و إليكم، سادتي، التفاصيل التي أعطوها..
كانت سفينة المختار قادمة من محطة" كِايه".. هابطة من نهر السنغال.. محركة بشراع من طرف طاقمها.. الرياح العاتية ألقت المركبة على الضفة.. قبالة مدينة " ريشار تول".. عند ذلك أعطى ماليفوار أوامره بالتوقف و تم النزول أرضا لتجفيف بعض الزرع و بعض الجلود التي بللتها الأمواج... في تلك اللحظة قدِم فرسان أربعة و توجهوا إلى الطاقم الذي كان مشغولا بمهمته.. تقدم أولا المختار ولد محمد ولد إعلي الكوري و توجه إلى ماليفوار.. و حياه و صافحه يدا بيدٍ.. طلب المختار من ماليفوار بعض التبغ.. قدم له ماليفوار وعاء التبغ.. ثم طلب منه منحه غطاءه.. فرد عليه ماليفوار بهدوء:
"
لو كنتُ في سان لويس لأعطيتك إياه بكل سرور... أمَا و أنا هنا في الصحراء فأنا بحاجة ماسة إليه.. و أحتفظ به.."
خاطبت إحدى النسوة ماليفوار قائلة: " أعطه إذا هذا الغطاء.. ألا ترى أن البيضاني جاء من أجل اختلاق مشاجرة كي يقتلك..؟"
"
و لماذا يقتلني..؟ أجاب هذا.. فالمختار طفلٌ من السنغال... و لم أمسسه بأذى قطُ.."
فجأة .. رمى المختار أمام الرجل بوعاء التبغ الذي ما زال يمسكه بيديه.. انحنى ماليفوار لالتقاط الوعاء.. أدار البيضاني فرسه.. صوب بندقيته نحو خاصرة الأسوَد.. محدثا طلقة سيطرت عليها التميمة التي كان الضحية يُعلقها في جنبه...
أوعز المختار إلى أحد الفرسان بأن يطلق النار.. امتثل هذا الأخير الأوامر.. أصيب ماليفوار بطلقة من تحت الأذن.. فمات على الفور..
لم يُطلق الفارسان الآخران النار.... و انصرف الأربعة هابطين إلى النهر بعد هذه الجريمة النكراء...
و بينما كان رجال ماليفوار يوارون جسده الثرى.. في واجب خيِر.. اكتشفوا آثار ضربة رصاص في بطنه.. جزموا أنها من الطلقة التي سددها المختار نحوه.. ولكن الرصاص لم يخترق جسده.. مما أرجعوه إلى قوة تمائم ماليفوار..
بعد ذلك بقليل، كان المختار و هو على فرسه قد مر ب { لافاي}، مرسى الصحراء القديم، حيث ترسو سفينة المسمى " مافال".. كان هذا البيضاني مرفوقا بأعمر، نجل إعلي بوشارب.. في ذلك الأوان كان البيضان يقوضون خيامهم على جناح السرعة كي يرحلوا.. و يردون على من سألهم بأن الحرب بين قبائلهم.. بقي مافال هادئا قائلا: " هذا لا يعنينا في شيء.."..
لقد كان المسكين على خطإ.. في المساء عاد البيضان راجلين.. و بدون إثارة منه أو من رجال طاقمه المشغولين بتجفيف الزرع.. و دون أدنى مؤشر مشاجرة أخذ القادمون يطلقون النار على الرجل و طاقمه.. و قتلوا على الفور مادمبا غويان.. الرقيق، عامل التشريفات و دمبا غيرين.. حُر و عامل تشريفات..و أصابوا مافال إصابة بالغة.. الذي عبر النهر سباحة ليصل مرهقا إلى سان لويس.. وأخذوا الزنجيين من الطاقم الفرنسي محم و أدبان أسيرين.. و نهبوا المنشأة و أغرقوها في عمق المياه..
شوهد أعمر ولد إعلي بوشارب و هو يشارك في تلك العملية.. كما شوهد المختار نفسه على مسافة قريبة من ذلك.. و هو في وضعية القائد الذي يريد أن يتأكد من تنفيذ أوامره..
تلكم ـ سيداتي ـ هي الرواية التي تداولتها الأفواه..
أما عن دواعي الجريمة.. فلا يخامر أحدٌ هنا أدنى وهمٍ أنها تعود إلى امتناع ماليفوار من تسليم غطائه للمختار.. و لا إلى الرغبة في النهب فقط.. و لكن كانت لهؤلاء دوافع انتقامية و ذلك مما يلي:
قبل أيام من تلك الأحداث كان الضابط قائد المركز الفرنسي بدكِانه " السنغال".. قد شاهد جُثة فرس متحللة في مكان قريب من المركز.. و تنبعث منها رائحة كريهة.. فطلب من إعلي {ولد} بوشارب.. الأمير البيضاني الطاعن في السن، أن يزيل الجثة عن ذلك المكان.. ما دامت ملكية الفرس تعود إليه.. فامتنع من ذلك قائلا إن الذين يتضررون منها عليهم أن يسحبوها حتى ضفة النهر..
لم يرتح القائد لذلك الرد و اعتبره و قِحا.. فأوقف الشيخ المُسن.. و سجنه لمدة ساعات.. ثم أطلق سراحه بعد ذلك..
غضِب الأمير من تلك المعاملة حتى لقيه السيد "بلكَرانه".. عمدة سابق لمدينة سان لويس فحاول تهدئته: أفهمه أنه لم يكن على صوابٍ في امتناعه عن سحب جُثة فرسه عند أول طلبٍ.. هذا بالإضافة إلى أنه لا يليق به أن يغضب من أشياء تافهة أمام أوامر ضابط يظن أنه قام بواجبه بكل حزم و مسؤولية.. و كان من الأمر في النهاية أن اقتنع الشيخ بالرجوع إلى المركز.. و صافح الضابط.. و جعلا الحادثة في طي النسيان.. فهل كان ذلك النسيان حقيقيا عند إعلي ولد بوشارب..؟
عندما عاد إلى ذويه أخبرهم بأمر سجنه..
و هكذا اتفق أعمر، ابنه، و بعض أقاربه على الثأر له.. و وقع اختيارهم على المختار الذي كان أميرا شجاعا.. أقوى منهم..
فأين تكمن قوة المختار الذي يمثل أمامكم {الآن} و هو ضانٍ ضعيف..؟
المختار حفيد إعلي الكوري، ملك ترارزه.. و عند وفاة هذا الملك كان ابنه محمد غِرا صغيرا بحيث لا يمكن إسناد ممارسة السلطة إليه.. و هكذا عُهِد بالملك إلى أعمر، أكبر أمراء ترارزه، فاعتلى العرش.. و عندما بلغ محمد ولد إعلي الكوري أشُده طالب بملك والده الذي لم يعد أعمر يقبل التنازل عنه.. و هكذا دارت معارك داخلية، طويلة المدى و ضارية، كان محمد خلالها، و هو المحارب التمرس و الأمير المظلوم يحل بالسنغال المرة تلو الأخرى طالبا اللجوء.. كان ابنه المختار الماثل أمامنا اليوم يأتي برفقته فيحظيان بالاستقبال اللائق.. و ليس هذا فقط.. بل يُسلمان، باستمرار، إكرامياتهما.. و هذه، لا شك، عناية سخية و هامة.. ليس من الممكن رد جميلها بعمل عدواني و جبان كهذا..
و في النهاية، و عندما قاد محمد محاولة أخيرة ضد أعمر قُتِل محمد غدرا على يد عدو كان هو نفسه قد أنقذه من الموت في السابق..
فصار مناصروه السابقون يتظاهرون بالإخلاص لمعتلي العرش الذي يحظى بالملك و المال..
و نشأ المختار يتيما.. فأقام فترة في ضواحي النهر.. حتى تم تنصيبه ملكا على مجموعة صغيرة من قبيلته في بلاد {الوالو}.. و كان يأتي دائما لقضاء أيام في سان لويس.. فيستقبل من طرف أحد السكان أو من طرف آخر.. فتعوَد على الأخلاق الفرنسية ..فتزيا بالزي الفرنسي.. و لبس بذلتنا و تكلم لغتنا.. و طرِب في حفلاتنا.. فصار الجميع ينظر إليه باعتباره، حقيقة، من أطفال السنغال.. كما وصفه ماليفوار عند وقوع الجريمة. بيد أنه كان يشي منذ ذلك العهد بسوء غريزي.. و يقوم بتجاوزات عديدة..
و في النهاية اعترف هذا الشاب بسلطة الأمير الحالي في ترارزه محمد لحبيب نجل أعمر.. و التحق بقبيله.. حيث استُقبِل، بكل فرح، من قِبل أصدقاء والده الذي جعلوه منه قائد معارضة الأمير الحالي.. فمنحوه قوة حقيقية... يتواصل...

تابعونا على الشبكات الاجتماعية