لست من دعاة محاكمة التاريخ، أو لعن الأسلاف، بل من المقتنعين بأن تاريخ أسلافنا فيه ما يرفع الهامات ويشمخ بالجباه، لكنني اعتقد أن العبودية التي توارثتها الأجيال السابقة في بلادنا صاغرا عن كابر، وكانت ميراثا سيئا، يفرض على الأجيال اللاحقة رد الجميل وقضاء الدين
.
فالذين تعلموا من أسلافنا ولازموا المحاظر والكتب وناطحوا فطاحلة المشرق والمغرب، كانت سواعد العبيد تتولى عنهم مشقة العمل وكسب القوت والرعي والاحتطاب، والذين حملوا السلاح وأمروا الأمراء، وقاوموا المستعمر بالغارات والمناوشات، كان العبيد يقومون على خدمتهم وتوفير أسباب الراحة لهم، والمنشغلون بالتنمية كان عبديهم يتحملون مشقة المرهق من أعمالهم، والحرفيون والفنانون وحتى بعض لحراطين، كلهم تحمل عبيدهم مشقة حياتهم، وسُلبوا لأجل ذلك حريتهم وحقهم في الحياة والكرامة.
الجميع عاش على أكتاف العبيد وعلى جهدهم وحصاد حريتهم المسلوبة، كانوا يَشقون ليسعد الآخرون، ويجوعون ليشبع الآخرون، ويعرون ليكسو الآخرون ويجلهون ليتعلم الآخرون، ويموتون ليحيى الآخرون.
اليوم نتفق جميعا على نبذ العبودية ورفضها، وفرض القانون عقوبات على ممارسيها، لكن بقي دَيٍن السلف في عنق الخلف ـ بفتح اللام ـ، فمن تحملوا المشقة عن آبائنا وخدموهم بالنفس والنفيس، ووفروا لهم أسباب الراحة والحياة، حري بنا ـ برورا بآبائنا، ـ أن نرد الجميل لأبنائهم وأحفادهم، وأن نعترف لأسلافهم بمنة خدمة أسلافنا، إذ لولاهم لكان في شظف العيش وقساوة الحياة، ما يحول دون الصدارة المعرفية والريادة الفروسية، والبراعة الحرفية والترف الفني.
ليس بمستساغ ولا مطلوب على الإطلاق أن يكون رد الجميل بقلب أطراف المعادلة الاجتماعية، فتلك معادلة انقضت بانقضاء زمانها وأجيالها، "تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون".
لكن رد الجميل يتم عبر الاعتراف بالخطأ التاريخي، والتمييز الإيجابي لصالح الأبناء والأحفاد، فنحن ندرك ونعي ونعترف أن أسلاف العبيد والعبيد السابقين ـ رحمهم الله ـ لم يتمكنوا من التعليم والتملك لأن أسلافنا ـ رحمهم الله ـ سخروهم لخدمتهم، فهل لا سخرنا لهم من الحق العام والمال العام والجهد العام ما يسد الخلل التعليمي، ويساعد في قهر كابوس العوز الذي أورثتهم إياه عبوديتهم لأسلافنا، هل لا سخرنا لهم من إنصافنا ما نعترف به بمظالمهم، ونشد على أيديهم ونشاطرهم النضال والسعي نحو حياة أفضل، بعيدا عن القمع والسجون والتخويف والشيطنة والتخوين.
أليس حريا بنا أن ننهي حالة التمايز الطبقي الاجتماعي، التي تكرسها اليوم البنية الحضرية القائمة على التوزيع القبلي والطبقي المكرس للعبودية، عبر ظاهرة الحواضر والقرى الخاصة بمجموعات الأسياد القبلية، وآدواب التابعة لها والمخصصة لمجموعات العبيد والعبيد السابقين.
إننا نحتاج إلى تفكيك تلك البنية الحضرية، التي رسخت التعاضد القبلي السياسي والطائفي، وركزت الطبقية والمفاضلة الاجتماعية البائدة، عبر المفاضلة في السكن، فانعكس ذلك على كل مناحي الحياة في بلدنا.
واستبدال تلك البنية الحضرية المريضة ببنية حضرية جديدة تقوم على الاختلاط بين الجميع، والمساواة في الفرص، ليتعايشوا ويتعاضدوا جنبا إلى جنب ويدا بيد، بعيدا عن خصوصيات آدواب، ومميزات الحواضر، وانغلاق "كصور لكور" على مجموعاتها الطبقية المغلقة.
فالبنية الحضرية الحالية في البلد تشكل ركنا ركينا من حالة التمايز الطبقي وتكريس المفاضلة في كل شيء، بدء بالسكن دون أن تنتهي بفرص التعليم والصحة والتوظيف.
حياكم الله جميعا.