دقة - حياد - موضوعية

استقالة الوزير

2015-07-17 03:28:21

تحت الشجيرات الظليلة في أكناف مباني وزارة التهذيب الوطني يناقش ثلة من الأساتذة أسباب استقالة وزير التهذيب الوطني: فمن قائل إن السبب هو تسريب أسئلة الباكولوريا، ومن قائل إنها احتجاج على قرار الحكومة بيع بعض المدارس، ومن قائل إن الاستقالة نفسها كذبة حمراء لا أصل لها ولا فصل...

.

لكن آخرين اشتغلوا بأصول افتراضية لموضوع الاستقالة لا تخلو من الطرافة والمبالغة، والله أعلم بصحتها أصلا.

فقد قال قائلهم إن نقاشا مستفيضا وغريبا جرى بين الرئيس ووزيره للتعليم في اجتماع مجلس الحكومة بالقصر عندما لامه أشد اللوم على ذيوع أسئلة الثانوية، فتشجع الوزير وجرد لسانه وقال: إن كانت هذه فضيحة تم تدارك أثرها (بالإعادة) فإن بيع المدارس وتحويلها إلى دكاكين للتجارة فضيحة مدوية أبدية لا يمكن تداركها، ولم يحدث لها نظير في تاريخ الأمم قاطبة، ناهيك عن مجيئها في واسطة سنة التعليم!

فقال الرئيس: لا أيها الوزير، لعلك من تلك الأمم التي لم تدرك أن التجارة أهم من التعليم وأكثر نفعا؛ فمواقع تلك المدارس "الاستراتيجية" تجعل تحويلها إلى أسواق تزدحم بالدكاكين "إنجازا عملاقا" سيكون لك شرف زمانه.

فأجاب الوزير بإصرار:

*هذا ما لن أقبله البتة أن يعمد إلى مدارس عريقة وتمسخَ دكاكين لبيع البضائع المزورة ويقال إن ذلك تم في عهدتي، حتى لو أن الجميع يعلمون أنه دون إرادتي. لا، لن يكون هذا أبدا.

قال الرئيس بهدوء: لكن لما ذا يا سيادة الوزير؟ أليست المدرسة مصرف أموال كثيرة، والمتجر مورد أموال كبيرة؟ ثم إنكم قد وافقتم على حذف هذه المدارس من الخريطة المدرسية بحجة إزعاج ضجة السوق؟ فلم "تحسدونها" للتجار؟!

أجاب الوزير:

* المسألة بالنسبة لي ليست تجارية. وأما هذه المدارس فيمكن استخدامها في مجالات كثيرة أخرى ومهمة، كتحويلها إلى معاهد فنية أو معارض علمية أو حدائق عامة أو متاحف مدرسية، بل حتى مقرات لبعض مصالح الوزارة التي تكتري منازل خصوصية بأموال طائلة. مع الحفاظ عليها كذاكرة مدرسية باعتبارها من أقدم المدارس في العاصمة كلها.

قال الرئيس وقد نظر إلى الوزراء ورئيسهم فاغرين أفواههم من هول جراءة زميلهم:

* يا معالي الوزير أنت لا تدرك تجارية مواقع هذه المدارس اليوم... لا تستطيع ـ مثلا ـ تخيل روعة سوق جديد في موقع "Ecole marché" تطل دكاكينه شمالا على ناصية شارع ناصر وجنوبا على قلب سوق العاصمة! وتتحدث عن المعارض والحدائق والذاكرة... ما هذا الهراء! فلعلك لم تر بعد الصورة الجميلة التي ستظهر بها المدرسة الوطنية للشرطة، وهي مدرسة "ربما" أكثر أهمية، بعدما تزين المتاجر واجهتها الجنوبية!

* بلى سيدي الرئيس رأيت ذلك وآلمني جدا بترُ ذلك المبنى وتطويقه بالدكاكين. لكن ذلك مرفق لا يتبع لوصاية قطاعي، فهو من اختصاص وزير الداخلية، وكانت مسئوليته تقتضي معارضة ذلك...

هنا صاح وزير الداخلية منزعجا:

* لا يا أيها الوزير، أنا أبارك هذا الانجاز وأرى أنه ينبغي تعميمه على كل المباني العمومية الواقعة على شوارع أو تقاطعات تصلح للتجارة، لأن التجارة أهم وأجدى من التعليم، حتى لو كان تعليم الشرطة! فلا تحاول جري إلى المعارضة أيها الوزير، أرجوك!

ولما رأى الوزراء استحسان وسرور الرئيس بتدخل وزير الداخلية أدركت بعضَهم الشجاعةُ على التدخل؛ فاقترب الوزير الأول من أذن الرئيس وهمس فيها:

* سوف أقيله فورا وأقدم لسيادتكم مرسوم تعيين الأمين العام لوزارته خلفا له.

فرد الرئيس بهدوئه ولكن بصوت يسمعه القريبون منه:

*لا، لا، ما من داع لذلك. أريد إقناعه وثنيه عن الاستقالة بهذه الطريقة الشريفة في نظر البعض.

هنا تدخل الوزير الأمين العام للرئاسة بدوره فهمس في أذن الرئيس الأخرى:

* من أجل ذلك اسمح لي السيد الرئيس أن أقترح عليه حلا مناسبا يغير رأيه ألا وهو إيجاد طريقة ما ليستفيد هو شخصيا، أو من يرشحه، من إحدى القطع المدرسية...

فقاطعه الرئيس: كلا، كلا. ليس هو بتلك الأهمية!

ثم طلب وزير الاتصال والبرلمان الكلام فقال:

* سيدي الرئيس إن الحل المثالي لهذا المعضل الصوري قد قر بين جوانحي: وهو أن تُحلى الأسواق الشامخة العامرة التي ستشيد على أنقاض هذه المدارس البائدة باسم "أسواق التعليم"، وبذلك مولاي الرئيس نقتنص غزالين برصاصة صديقة واحدة: ينجز البيع وتبنى المتاجر، ويخلد التعليم بوسم هذه الأسواق المباركة باسمه في سنته التي لكم براعة اختراعها..."

وإلى هنا ـ حسب الراوي ـ توقف النقاش بين فخامة الرئيس ومعالي وزير التهذيب الوطني الرافض بشدة لبيع المدارس العمومية.

ولكن ـ كما قال الراوي أيضا ـ "في ختام المجلس انفرد الرئيس بنفس الوزير ووبخه على جراءته وقال له إنما تظاهرت لك بالسكينة ولين العريكة، ولكن لتعلم أن القرار ماضٍ لا رجعة فيه ولا مساومة، كما أنه لا مجال لاستقالتك من الوزارة إلا بثمن لن تطيق تحمله! والآن إما أن تقبل القرار وتنفذه وتزينه للناس، وإما أن أجعل لوزارتك ظلا يكون فيه سرها وبيده قرارها!

تساءل الوزير: ما معنى ذلك سيدي الرئيس؟

فقال الرئيس وقد فكر قليلا: هل تعرف ـ مثلا ـ مَن هو وزير الداخلية الحقيقي؟

فقال الوزير: أجل، كان يتكلم الآن...

فقاطعه الرئيس: نعم، ولكن تعلم أن وزيرها الحقيقي هو المدير العام لوكالة السجل. وهل تعلم أيضا مَن هو وزير الصيد الحقيقي؟

فقال الوزير، وقد كاد أن يفلت ضحكة:

* اجل أعرفه إنه مستشار الوزير نفسه!

فقال الرئيس: برافو. في بعض الدول الديمقراطية تكون هناك حكومة ظل لا تملك أي صلاحيات... ونحن أـيضا دولة ديمقراطية ولكن الصلاحيات فيها تكون لوزير الظل!

فقال وزير التهذيب وقد طافت بذهنه أشياء كثيرة منها التفتيش والمحاكم:

*هل من ذلك تعيينكم الأمين العام الجديد لوزارتي؟

فرد عليه الرئيس بحزم:

* كلا، فذلك رجل من الجيل الأول لا يصلح للظل ولا أهمية لصلاته القبلية بي... رجل الظل سيكون أقل وضوحا وأكثر قوة وبطشا..."

هذا وزعم الراوي أن هذه الوقائع كانت سبب انتشار شائعات استقالة الوزير، وأنها لا صحة لها ولا احتمال، لأن بلدنا لم يحدث في تاريخه العسكري أن استقال وزير أو مسئول تنفيذي من وظيفته باختياره.

ثم إن الأساتذة ثنَوا عنان نقاشهم إلى موضوع الأسواق والعمارات التجارية التي ستقام على أرض المدارس العمومية إياها، مستهدفين معرفة أصحاب الحظ الذين سيحظون بتلك الصفقات الدسمة، متفقين على أنهم إن لم يكونوا الرئيس أو من عائلته والأقربين "الأولى بالمعروف" لديه فإنهم أولو حظوة شديدة على كل حال.

م. محفوظ

تابعونا على الشبكات الاجتماعية