انتقد الكاتب الصحفي محمد محمود ولد بكار بشدة الأوضاع في البلد معتبرا ان نخبته ميتة، مستكينة، تبحث عن رغيف خبز تفرك به أسنانها، ومعارضته تلوك قطعة مطالب من وحي العجز والجمود" وان خائرة القوى، بلا رسالة، تعيش في القرن الحادي والعشرين على القيل والقال.
.كما تحدث ولد بكار في مقابلة نشرتها الامل الجديد اليوم الاثنين عن الحوار وعن التشيع في موريتانيا وغيرها من القضايا وهذا نص المقابلة:
الأمل الجديد:
أثرت،قبل أيام، بصورة قوية، من خلال مقال نشرته في الصحافة، مسألة انتشار التشيع في موريتانيا. ما الذي دفعك إلى الكتابة بكل تلك القوة؟
محمد محمود ولد بكار:
أنا عندما أكتب لا أكتب بإيعاز أو إملاء من أحد، بل بسبب الضغوط التي يمارسها عليً وعيي بالأمور ومسؤولياتي التي يغريها تاريخي: فأبوبكر بن عامر عندما ترك مراكش ليوسف بن تاشفين تركها فقط لأن مسؤوليته لم تتوقف عند رئاسة مراكش أو الدولة في شكلها الإداري. زينب النفزاوية هي من أشار إلى يوسف بعدم إعادة السلطة لأبي بكر ،لأنها تعرف طموحه. لقد استشهد أبوبكر في تكانت بعد ذلك بضربة رمح مسموم في إحدى المعارك التي خاضها ضد الكفار من أجل الإسلام وليس ضد ابن عمه من أجل الحكم. إبنه وإبن أخيه عثمان ومحمد وهلم جرا، حتى بكار ولد اسويد أحمد وإبنه عثمان لم يكن همهم الملك ومراسلاتهم مع المستعمر تمحورت حول أرض المسلمين والإسلام، وليس من أجل الغنائم أو تثبيت دعائم الملك. هذا التاريخ يضغط عليً كثيرا بتضحياته وتساميه وبحثه عن مصلحة البلد الإسلامي كله لله الحمد. هذه الأحجار والأشجار والتربة هي مجدي وتاريخي الذي يفوح بأديم أجدادي الحفاة العراة منذ مئات السنين حفاظا على سلم وأسلمة هذه الأرض. إذن لا يمكنني أن أتفرج وأنا أشعر بالخطر على استمرارية أو مقدرات البلد. وهكذا عندما أكتب عن تعثر الحوار أو عن الصيد أو تازيازت أو الديمقراطية أو أي غزو سياسي أو فكري إنما أقوم فقط بمسؤولياتي، ولهذا السبب أعارض هذا النظام لأن نمط ممارسته للحكم يساهم في زيادة التهديدات للمحظيات وللإستقرار ، خاصة سكوته عن أغلب هذه الهجمات على المقدسات وعلى الوحدة وعلى جهود الأجانب في البلد بدءا بالتشيع، مرورا بالسفير الأمريكي ودعاة الإنفصال والتفرقة. كل هذا وجد له موطأ قدم في البلد . النخبة من علماء أو قادة رأي عندما يسكتون عن تهديد بهذا الحجم يكونون خونة، وأطر وأفراد النظام عندما يتهاونون إزاء المصالح العليا لمجتمعهم يكونون عملاء. المسألة ليست صفقات أو تقاسم منافع أو نفوذا أو سلطة، بل هي مصير شعب تحطمه الآفات والويلات والهموم، تأكله الديدان وتغرس فيه مشتلات من رؤوس الشر ومواطن الفتنة والتفرقة وصراع النفوذ والأيادي الخفية والمخططات على أيدي أبنائه على مرأى ومسمع من أهله. نخبة البلد في تجلياتها وأكثريتها ميتة مستكينة تبحث عن رغيف خبز تفرك به أسنانها، ومعارضته تلوك قطعة مطالب من وحي العجز والجمود. وصحافته ـ دون رمتها بالقليل ـ خائرة القوى، بلا رسالة، تعيش في القرن الحادي والعشرين على القيل والقال ، قوى سياسية يتقاسمها في الغالب فقدان المرتكزات ورداءة الأدوار، فأنى لي أن أسكت إذن؟.. نعم، بلدنا يلملم فيه الإستقرار أوراقه، بفعل تكالب الأدوار عليه، لكن يجب على العالم الآخر أن لا ينسي دورنا الثقافي والديني كمرجعية لدى شعوب الجنوب، وبالتالي ستتأثر المنطقة كلها بما يصيبنا من تشيع أو عدم استقرار .إنها، في نهاية المطاف، صرخة للكل.
الأمل الجديد:
لماذا كل النحل والحركات العلمانية والطائفية تنخر المجتمع، ومع ذلك نرى كل هذا التحذير موجها ضد التشيع وحده؟ هل لأن خطورته أصبحت أكثر إلحاحا ؟
محمد محمود ولد بكار:
الحركات السياسية والنحل وغيرها تختلف في خطورتها من حيث المرتكزات والحوافز، وكثيرا ما تتمحور مرتكزاتها على التنظير للأوضاع وتغيير أو تحسين ميكانزمات النظام العام بمعنى الأطر السياسية والاجتماعية . لكن هذا بطيء ويصطدم بأفكار أخرى مناوئة ويظل حراكا يتأثر بالأوضاع والتقلبات وفي عملية مد وجزر، بينما الطوائف الدينية خطر معلب وجاهز لأن مرتكزه ديني عقدي، فهو غير مرن، بل أي سلوك فيه يعتبر جهادا: من الدعاية إلى الاقتتال. المشكلة هنا ليست في الخلاف في الأحكام الشرعية: معاملات كانت أو عبادات، المشكلة في التمايز في العقيدة، في النظرة للأخر، لشرعيته، لخصوصيته، وما يطرح ذلك من أعباء على النظام العام على المجتمع. المشكلة تكمن في تعدد المرجعيات واختلاف نمط البهجة في المجتمع واللبس والمميزات بحيث يكون الاحتكاك سهلا جدا. هذا الإحتكاك سيتطلب النصرة أي تدخل أطراف أخرى لحماية الناس في/ ومن مجتمعهم الذي عاشوا فيه منذ سلالتهم الأولى. هذا هو المشكل، كما أن هذه الطائفة لم تأت بمحض الإختيار النابع عن القناعة، بل بضغط المغريات وضمن مشروع طموح وواسع. خلافنا مع هذا المشروع أنه سيخلق لنا مشكلة ستتفاقم في أقل من عقد من الزمن أو في أقل تقدير هي زيادة في تعقيد الوضع بالإنقسامات والتمايز ودعم الإتجاهات الرامية للتفكك، وهذه هي المشكلة، فمعركتنا ليست معركة حرية المرأة أو حرية الفكر أو حرية التعبير: هذا ميدانه معروف وأسلوبه معروف وهو في حده الأقصى ينتهي بتكوين دولة ديمقراطية، لكن بماذا وأين سينتهي الصراع بين الطوائف الدينية خاصة عندما يكون عنصر تأجيج؟..
الأمل الجديد:
قضية حماية المجتمع من النحل الدخيلة برأيك هي قضية الدولة او قضية المجتمع او هما معا؟.. ألا تقف حرية التفكير عائقا في وجه جهود التعبئة ضد اي مد؟
محمد محمود ولد بكار:
حرية التعبير والفكر وضعت لكسر سلطان الإستبداد وجبروت اللاهوت واحتكار الرأي والسلطة ومن أجل تمكين وحماية وفتح الطريق لأصحاب العقول والفكر والطموح ومنح الفرصة لكل فرد للمشاركة في مجتمعه، وهي في النهاية من أجل مصلحة المجتمع .لكن لها حدود وشروط وتنظيم وكوابح يعبر عنها القانون في أبهى صور تسامحه وفي أعتى مظاهر ردعه لمنع الشطط والفوضى ، فلا توجد حرية رأي على بياض وإلا لم توجد سلطة، ثانيا لكل مجتمع أصوله ومرتكزاته وإكراهاته التي تـُحل له وتمنع عليه وليس هناك نموذج فريد صالح للكل .إذن لا توجد حرية تعبير تمنعنا من حماية مجتمعنا من الفتنة والانهيار .أما الشق الأول من السؤال (هل قضية حماية المجتمع تقع على عاتق الدولة أو المجتمع؟) فالجواب أنها تقع عليهما معا: تقع على الدولة بوصفها الضامن لاستقرار المجتمع ووحدته وتماسكه في الشكل بالنسبة للمؤسسات والسلوك الذي يتخطى الفرد والقوانين والضوابط والنظم. وتقع على المجتمع لأنه هو الضامن لاستمرار نفسه، معتقداته، قيمه، عاداته. لكن هذه المسؤولية مركزة في الطبقة التي تنظر للمجتمع أيا كانت وتملك السيطرة أو النفوذ على عقول وفكر الناس وذوقهم العام، ولها قدرة النفاذ على رأيه وبالتالي دورها كبير في التصدي للهجمات الفكرية ولأي جهد فكري أو دعوي يمس تلك المنظومة ويؤثر على تاريخ الشعب الذي يرمز لانسجامه وتعايشه المديد ووحدته . ويتأكد هذا الدور في المراحل التي لا توجد فيها أعمال على الأرض يعاقب عليها القانون وتكون الأمور في حدود الأفكار وحشد التأييد .
الأمل الجديد:
إذا كان جهد نشر التشيع إقليميا وليس وطنيا، فلماذا لا تكون هناك جهود تتعاون إقليميا على مكافحته سواء في العالم العربي او في افريقي؟
محمد محمود ولد بكار:
جهد التشييع واسع وقد استفاد من عدة أمور : منها وقوف إيران في الصف المناهض للغرب ولإسرائيل ودعمها لمقاومة العربية في فلسطين ولبنان وسوريا، ثانيا قوة إيران المغرية اقتصاديا وصناعيا التي تطمع فيها الدول الفقيرة، ثالثا غياب ايديولوجيا عربيا أو دولة مركزية على هذا النسق سواء اتجاه العرب أنفسهم أو اتجاه العالم الآخر . كل هذا استفادت منه إيران لبث فكرها ونشر طموحها بين الناس في حين أن الطبقة المثقفة في اندهاش كبير بسبب اختلاط الأوراق والمفاهيم والصور التي ترتسم على صفحات الأحداث يوميا. إذن ،كل هذا أغرى البعد الشيعي الإيراني في الرواج ، في الانتشار حيث يدعمه المال والتصميم والتطور التقني والصناعي والموقف ذو الدلالة السياسية بالنسبة للكثيرين ، أما بالنسبة لنا نحن اليوم فإننا نستقبل النموذج العراقي في أرضنا وهكذا يعد شرعيا تماما أن نقف بملء إرادتنا ضده أي ضد غرس هذا النموذج في بلدنا أحب من أحبّ وكره من كره .
الأمل الجديد:
كيف تتصور دور المثقف في مواجهة هذا هنا في موريتانيا وكذلك في كل المنطقة العربية والاسلامية؟
محمد محمود ولد بكار:
هناك فرق بين مسؤولية المثقف ودور المثقف. نحن الآن لا نتكلم عن الدور بل نتكلم عن الواجب، عن المسؤولية، عن العمل الذي يجب أن نقوم به حيال هذا التهديد الخطير: زرع مشكل عميق في المجتمع يعيق جهود الوحدة والإنسجام المديد .وهو بكل تأكيد جهد طلائعي ويتلخص حاليا في بلورة موقف من هذا الغزو والتصدي له بالوسائل الفكرية وحشد تأييد المجتمع ضده ووصم الدعاة له وعزلهم حتى تتضح فداحة موقفهم الذي قد تنجر عنه كارثة على المجتمع ، والضغط على الإعلام والدولة حتى تنبري بكل حزم للتصدي لجميع أنواع دعوات التفرقة مهما كان مصدرها أو راعيها.
الأمل الجديد:
أين في نظرك يتجه الحوار وما هي أسباب هذا التعثر الدائم ؟
محمد محمود ولد بكار:
هذا الموضوع أعمق من الطريقة التي يطرح بها في الساحة. ودعني أفسر لك ذلك .أولا يجب أن تفهم استحالة أن يتم حوار جوهري بين الأطراف للإختلاف في المفاهيم وفي الأهداف . فطرف السلطة "العسكر" يعتبر أن التناوب قد حصل بمجرد إجراء انتخابات عامة مفتوحة لمشاركة الجميع، وأن بقاءهم في السلطة بعد ذلك من خلال نفس الشخص أو شخص آخر أمر لا يؤثر على التناوب. ولهم في ذلك طرقهم المشروعة في نظرهم والتي لن يتخلوا عنها .
أما المدنيون فإن أيً انتخابات لا تضفي إلى إزالة العسكر من السلطة فهي لم تخلق فرص التناوب بل يعبر عنها أغلبهم بالمهزلة .إذن التناوب بالنسبة لهم بين المدنيين فقط وبالطرق النموذجية . ولهذا لن يتم حوار أبدا علي رغبة المدنيين .
الأمل الجديد:
إذن ما معني هذه الدعوة للحوار بين الأطراف إذا كان الأمر كذلك ؟
محمد محمود ولد بكار:
دعوة العسكر جدية لأن لهم إستراتيجية دقيقة وصفهم متماسك وجبهتهم موحدة .
أما المدنيون فليست لهم استراتيجية وأوراقهم مبعثرة ومتخالفون ولذلك هم غير جادين وكل ما يسعون إليه أماني وليس عملا سياسيا حقيقيا .ومن خلال هذا تفهم معني تمسك ولد عبد العزيز بالحوار، فهو بذلك يريد تمرير استراتيجيته التي تتراوح بين سيناريوهين:
ـ أن يعمل عملية "تشحيم سياسية": منع الإحتكاك بين مأموريته والمأمورية اللاحقة من خلال تمكين أحد أصفيائه من السلطة، ولا يكون استمرارا له، ويكون هذا بمباركة الطيف السياسي من خلال عملية توافقية تضفي إلى مشاركة الكل. وهذا هو أكبر تنازل يمكن أن يقدمه عزيز على الإطلاق. أو أن يظل عزيز في الحكم عبر واحد من ثلاث سيناريوهات وهذا هو بيت القصيد . إما أن يضع رجلا قشا في كرسي الرئاسة ويكون عزيز هو المسير الفعلي للسلطة دون أن يمارسها فعلا وعندما ينقضي بعض من وقت المأمورية يسحب رجل القش ويعاد انتخاب عزيز .
السناريو الثاني أن يضع نفس القش في الكرسي ويكون هو المسير الفعلي على طريقة روسيا بوتن ـ مدفيدف . وهذه هي أحسن المخارج
أو أن يغير الدستور وهذه هي أصعب الأمور عليه . وعلى كل يملك عزيز من الدعم الشعبي حسب مظاهر الزيارة الأخيرة ما يمكنه من كل ذلك أو على الأقل يطمئنه . وهذه السناريوهات هي التي توجه بوصلة الحوار حسب أي الخيارات أقرب بالنسبة للعسكر. وهكذا عندما اشتدت الأحداث العالمية ضد تغيير الدساتير كانت لغة عزيز اتجاه الحوار سلسة وكان استعداده واسع مستعد للتوقيع على بياض وكانت لهجته مطمئنة وصار سيناريو تغيير الدستور غير وارد و أصبح عزيز صريحا في عدم البقاء في السلطة . وعندما خبتت تلك الأصوات ونجحت بعض المحاولات عاد هو للهجة المتحجرة والسعي على الحصول على أقل قدر يسرع ويشرع به مسعاه وصارت كل السنريوهات مقبولة . وعلى كل حال عزيز وأصدقاؤه وأتباعه من الجيش كلهم يعرفون ماذا يريدون لكنهم مختلفين في أي السنريوهات وأي الطرق، أي يعوزهم الإخراج الذي يضمن النجاح الخارجي .أما الطرف المدني الموالي لهم فيحركونه مثل البهلوان الذي يحرك من الخلف بالخيوط على مزاج محركه تارة للرقص وتارة للضحك، فهم لا يعرفون ولا يملكون من الحقيقة شيئا، تراهم اليوم ملتزمين بالحوار وكل جهد دعايتهم يصب فيه وعندما يدلي عزيز بتصريح مفاجئ ضد الحوار إذاهم يتسابقون للتنكر له .
الأمل الجديد:
إذن ما هو الحل؟
محمد محمود ولد بكار:
الحل في يد المعارضة، وهو أن توحد صفوفها وتضع إستراتجية واضحة، وأن تضع هدفها المتفق عليه نصب أعينها وتلتزم به .وأن تنتهج طول النفس في الأمور وفق تخطيط ووفق مبدأ خذ وإضغط وطالب، وأن تعرف في قرارة نفسها أن أطراف الحوار لابد أن يستفيدوا جميعهم وكل واحد منهم يسعى لكسب أكبر حصة. وهذا حقه وبأن يكون هدفها أن يظل الوطن هو الرابح.