حدَّثني محمد فال ببَّها لمرابط علما حفظه الله و رعاه أن الترجمان المشهور بُبكر بَهْ حدثه أنه كان يرافق الحاكم الفرنسي في مالي فجر ذلك اليوم الذي تمَّ فيه إرسال الشيخ أحمد حماه الله رضي الله عنه إلى المنفى في أوروبا.
.
قال الترجمان وصلنا إليه مغلِّسين فإذا به قيدَ الوضوء و لم يبقَ له منه إلاَّ رجله اليسرى فمنعه الحاكم من غسلها!. و بعد أن ركبنا السيارة في اتجاه الطائرة سألني الشيخ قائلا بالحسانية: "هذا شنْهُ ؟ " فأجابه الحاكم و كان يجيد الحسانية لطول فترة مقامه هناك:" ذاك أم اشكَاكَْ!"
و استمعت قبل سنوات إلى عمدة افديك السابق ول بلَّ رحمه الله يقص قصة مَفادُها أنه بينما كان يزاول عمله البسيط في مطار أطار إذ صادف في ظرف متزامن توقفا فنيا لطائرة فرنسية فإذا بها راكب ذو هيبة كبيرة علم فيما بعدُ أنه الشيخ حماه الله فطلب منه أن يوفر له ماءً للوضوء ففعل و بالمقابل أخلص له الدعاء و ضمن له ضمانات قال إنها تحققتْ لاحقا بإذن الله.يمكن التنسيق بين الأمرين و الوضوء قرينة قوية؛
جاء ذلك التغريب إذن كما قال الحاكم الفرنسي نتيجة تلك الأحداث المشهورة في الأربعينات.و من نتائجها كذلك تغريب الزعيم التقليدي المعروف جدُّ بن البُ ت 1974 (ذو السبحة في أقصى يمين الصورة).استغرقت العقوبة سبع سنوات قضى جلها في الديار المقدسة و بعضها في السنغال.اطلعتُ مرة على بقية من الوثائق التاريخية النادرة في أرشيف المقاطعة في تامشكط و من بينها ملف خاص بالمعني يرصد فيه الحكام الفرنسيون المتعاقبون مساره منذ نعومة أظفاره و خاصة منذ تولِّيه رئاسة جماعته و لمَّا يتجاوز بعدُ الثامن عشرة من عمره و ذلك بمعدل تقييم دقيق لمدى ولائه يتم تحريره و توقيعه كل ستة أشهر.وقفت على برقية يوجهها الحاكم الفرنسي في بوتلميت إلي زميله في تامشكط يخبره بموجبها أن السيد محمدن بن دادَّاه العائد إلى بوتلميت قادما من السنغال قد التقى البُ في مدينة اندر و أنه تحدوه رغبة جامحة صادقة في العودة السلمية إلى أهله و أرضه في تامشكط. و بمبادرة من الحاكم أو تلبية لطلب من رؤسائه ضمَّن رأيَه الصريحَ تقريرا مفصَلا وجهه إلى الحاكم العام في سان لوي.يتلخص رأي الحاكم في أن ولاءَ المعنيّ طالما كان موضع شك نظرا لتقديمه مصالح قومه على المصالح الفرنسية ،و أن طموحه لا حدود له مذكِّرا بأن السلطات الفرنسية لم تثنه إلاَّ بعد لأي عن مطالبته بتوحيد بقية فصائل قبيلته في كل من العصابة و الحوض بقيادته طبعا و لكن تحت لقب جديد هو لقب "الملك" بدل اللقب التقليدي للرئيس العام للقبيلة!
و أخيرا أبدى الحاكم رأيا مؤسسا بالإعتراض الصريح على عودة جدُّ بن البُ من منفاه الطويل و ختم تقريره بقوله: " إن فرنسا لا قِبلَ لها أبدا بعودة جدُّ بن البُ ليزاحمها في هذه الربوع و قد عزَّز سلطته الزمنية بسلطة دينية إضافية تتمثل في لقب "الحاج" الذي أصبح يحمله بعد تأديته فريضة الحج ابَّان مُقامه بالديار المقدسة"!
و لاعتبارات أعلمُ بها الرؤساء الإستعماريون ضربوا برأي الحاكم عرضَ الحائط هذه المرة و عاد جدُّ بن البُ إلى مسقط رأسه فاستعاد مكانته و قد تعززت سلطاته ربما بعامل ثالث غاب عن الحاكم و ربما أرَّقه و هو ذلك الذي رجَّح لدى السلطات الفرنسية العليا طلبَه العودةَ على طلبِ ممثلهمْ الحاكمِ رفضَ هذا الطلبْ! ِلعلهم خبروا الرجل عن قرب افتنبهوا إلى أنه يمتلك من مقومات القيادة و السيادة ما يجعل التفريط في مثله ضربا من السفه! ذلك على الأقل ما تقرؤه من خلال سيرته الحافلة فإن اسمه مقرون بالإعجاب و التقدير في أذهان الجميع.رحمه الله رحمة واسعة.