تعتبر شهادة الباكلوريا الشهادة الأكثر مصداقية في بلادنا ،حيث ظل اهتمام جل الطلاب ينحصر في الحصول عليها،ومنهم من ينهي مشواره الدراسي عندها ؛ وصولا إلى دخول المجال النشط ،وولوجا إلى سوق العمل والتحصيل المادي.. لاعتقاده أن أحد أهم تقديرات التحصيل العلمي تم التحصل عليها، ومنهم من يواصل دراسته الأكاديمية في الجامعة التي ظلت يتيمة إلى عهد قريب ،وقلة منهم من يحالفهم الحظ أو يسعفهم الحظ الآخر على مواصلة دراستهم في الخارج
.
.
ومن المعروف أن هذا الانحصار الاهتمامي المركز ؛لم يأتي اعتباطا ،بل ولد في بيئة لم تكن تعرف الشهادات أصلا ،وكان التقدير العلمي يتولد من خلال ما يتقنه الشخص ويظهر مهاراته في تقديمه ؛سواء بالطرق التقليدية المتعارف عليها في المحظرة مثلا ،أو عند بدئه بالحديث عن موضوع ما ،أو عند معالجته له كتابة ، أو من خلال إجازات المشايخ.
ونظرا للتطورات التي شهدتها مختلف مجالات الحياة ؛بدء بالنظم التعليمية في العالم المتحضر أولا ووصولا إلى عالمنا العربي الإفريقي ثانيا بفعل التوريث الثقافي من لدن المستعمر ؛بدأت دائرة الاهتمام تنشأ و تتوسع على اعتبار أن الشهادة هي التعبير القانوني عن المستوى التعليمي وهي المحدد له؛ وإن تأخر اعتماد ذلك بشكل مباشر عندنا على غرار باقي الدول التي من بينها جيراننا المغاربيين،الذين شهد اعتماد الشهادات والاهتمام بها بشكل رسمي عندهم تطورا أكبر وأسرع من واقعنا في ذلك الزمن.
ولما كان الاهتمام بشهادة الباكلوريا طاغيا على نفوس الطلاب والأهالي ؛نظرا لاعتبارية هذه الشهادة في التحصيل العلمي ونظرا لما تخوله لصاحبها من امتيازات في مجال العمل والتوظيف في عهد الدولة الفتية ،سواء كان ذلك على مستوى قطاع التعليم أو الصحة أو في المجال العسكري ،أو حتى في المجالات الإدارية المركزية السامية ؛لما كانت هذه ميزتها ؛سعى الكل في طلبها وعز الوصول وكثرت الضحايا ؛وقل المتحصلون عليها ، وظلت هذه السمة الأبرز في نفوس الطلاب وفي محيطهم الاجتماعي الذي يتفاعل سلبا أو إيجابا مع عدم الحصول على الشهادة أو الحصول ونيل المطلوب.
ومن الملاحظ أن شهادة الباكلوريا تتميز عن غيرها من الشهادات الوطنية وتختلف في نقاط كثيرة ،سواء كان الوصول إلى تلك الشهادات يتم عن طريق مسابقات أو امتحانات ، فلم تحظ مسابقة دخول السنة أولى إعدادية مثلا وإن في سالف الزمن بما حظيت به الباكلوريا في الزمن اللاحق ولم تحظ بذلك شهادة ختم الدروس الإعدادية ،وهما طبعا أقل منها قيمة علمية بكثير،لكن المعيار لم يكن بالضبط متمثل في القيمة العلمية ولم يكن ذلك هو مبعث العزة في النفوس ،فما أحيطت به الباكلوريا من عناية واهتمام ؛سواء من الجانب الأهلي أو الإداري الرسمي ؛لم تحظ به أي من الشهادت الجامعية ،ولا نستثني من ذلك الشهادة العامة للجامعة ولا الليصانص ولا المتريز ،فكل هذه الشهادات لم تحظ بما حظيت به الباكلوريا من هيبة في نفس طالبها ولا الأهالي تفاعلوا مع غيرها كما تفاعلوا معها ، ولا الدولة بذلت جهدا أكبر أو وفرت الوسائل وجندت الموظفين ؛وسخرت كل الآليات بالمستوى الذي تتعامل به مع حدث امتحان الباكلوريا؛ في مسابقة أو امتحان مع غيرها، وقد يكون كل هذا ساعد في بقائها بعيدة و عصية على كثير من الخرقات التي لوحظت مبكرا في غيرها،فمثلا شوهد في السنوات الماضية ظهور فوضى في التعامل مع مسابقة دخول السنة أولى إعدادية ؛وتمت ملاحظة حلها للتلاميذ من طرف المراقبين بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر ؛ولوحظ التغاضي عن من يفعل ذلك ؛والحالة هذه تنطبق بالتماثل والكمال على امتحان شهادة الدروس الاعدادية.
ولوحظ الأخطر من ذلك في جامعة انواكشوط أيام كان النجاح تتحكم فيه عوامل مثل القدرة على فتح الكتب والاختلاس منها أو إدخال المواضيع بعد الحلول أو التعامل مع المذكرات المصغرة ،وما يحدث في الشفهي أدهى وأمر ؛فالإسم العائلي يغني غالبا عند بعض الأساتذة عن الامتحان ويكسب الرهان؛ويحصل صاحبه على النتيجة المرضية دون أسئلة في الوقت الذي يتلقى فيه آخرون أسئلة تعجيزية وإن أجاب أحدهم لم يعط من النقاط مايستحق.
أما بخصوص الطالبات في الجامعة فحصولهن على النتائج المرضية ونيل الشهادات أمر مفروق منه ؛لكنه يختلف ويتباين باختلاف المؤهلات الجسدية ؛فالجميلات والممتلئات الأجسام حظهن أوفر ،ويحز في نفسي أن أورد هذه الملاحظات بالذات في بداية رمضان ؛لكن المسؤولية ومحاولة برور الوطن وأداء أمانة المجتمع أشياء ترغمني وتدفعني إلى أن أقول ما قلت ،قد تكون هذه الملاحظات صادمة عند البعض لكنها حقائق وقعت في أروقة أكبر صرح علمي كنا ولا زلنا نعده من المفاخر..
تغيرت الحالة هذه نسبيا لما حل النظام الجديد مكان القديم وألغي الشفهي باعتماد نظامL.M.D لكن الذاكرة الطلابية ما زالت تحتفظ بمشاهد لا أخلاقية صادمة ،وتختزن عبثية في التعامل تنبئ بموت ضمير صاحبها وفنائه في عفن الخلفية الاجتماعية الذي قد يتلون به لون كفنه عند ما يصير إلى حتمي موطنه والعياذ بالله ، ولن تنسى هذه الذاكرة أن جامعة انواكشوط هي التي سبق وأن تم تزوير شهادات باسمها ثم تم تصديقها عند إدارتها ..! والحادثة معروفة وأخواتها عصفن بمسؤولين كبار في الجامعة حينها،وتشهد على هذه الفوضى سنين في عشرية ليست عن يومنا هذا ببعيد..!
تغيرت هذه الأساليب والخرقات التي أثرت سلبا على المنظومة التربوية وتحكمت في طريق الوصول إلى الشهادات لما دخلت على الخط تقنيات حديثة تتمتع بها الهواتف الذكية ، فالامتحانات أصبحت تحل عن طريق "الواتس آب " و الآنستغرام " .
وسواء سربت المواضيع أم لم تسرب فإن إمكانية إيصال الأسئلة إلى من يحلها خارج مؤسسة الامتحان أمر لا يستغرق إلا دقائق بل ثوان بعد تقسيم المواضيع.
ولأننا في بلاد تتطور فيها المشكلات وتتكاثر التحديات بشكل أسرع من طرق الوقاية والعلاج فإن حتمية تولد المشاكل سيظل واردا ومخيفا ،فالتطور الذي شهدته عقلية التلميذ المختلس وآلياته في ذلك لا يقابلها وعي بما فيه الكفاية من الرقابة بل من الإدارة التي تنظم الامتحان ،فلو أدركت الإدارة أن هذه الوسائط يمكنها أن توصل الحل إلى التلميذ في قاعة الامتحان بعد إرساله للموضوع بدقائق وبقدرة فائقة التحكم والنقاء في عرض وتصفح وتكبير وتصغير واستدارة الصور؛لما سمحت بدخول الهاتف أصلا إلى قاعة الامتحان ، ولكانت قد عبأت المراقبين على الاحتراز من الهواتف الذكية وعدم السماح لأي تلميذ بالدخول بها واستخدامها ،وهناك سماعات الهاتف العادي التي تلتحف عليها الفتيات أساسا ويسمع من خلالها طرح الأسئلة ويتم الجواب وتكون الطالبة مجرد آلة طابعة لا غير، وطبعا نجحت بهذه الطريقة مجموعة كبيرة من الفتيات في الباكلوريا والأكثر من ذلك كان في جامعة انواكشوط وطبعا تفوقن بذلك على آخرين وحظين بما لم تحظ به غيرهن وسادت هذه الطريقة على طرق الغش الأخرى في السنوات الماضية.
لماذا لا يتم تفتيش الفتيات وبحث ما في آذانهن من طرف نسوة مراقبات ؟ ولماذا لا يتم منع دخول الهواتف الذكية إلى قاعة الامتحان ؟ ولماذا لا يتم انتقاء مراقبين محلفين للإشراف على العملية إن كان ذلك سيجدي؟
نحن بحاجة إلى إحياء الضمير الوطني في نفوس المشرفين على العملية التربوية أكثر من غيرهم.
من المؤسف أن لا نجد من يتورع عن تجذير ظاهرة الغش والإسهام فيما يولد ضعفا أعمق في المستويات وموتا حقيقيا وإجهازا على روح التعليم.
وإن صح الحديث؛ أن أستاذ مادة الفيزياء هو الذي سربها لابنه الذي انتشرت من عنده انتشارالنار في الهشيم ؛إن صح ذلك "فقد أوتي الحذر من مأمنه" ،ومات ضمير الرقيب وانعدمت فيه الوطنية وانكشفت هشاشة الرقابة والانتقاء.
وطبعا اعتماد المواضيع كما قدمت يضعف من الرقابة عليها ،فلماذا لا يتم انتقاء تمارين متفرقة من المواضيع المختلفة المقدمة إلى لجنة الامتحان ، لماذا يتم اعتماد الموضوع كما قدم ؟ والذي قد يكون أقل ما ينجم عنه هو ما حصل ؛في حال ضياع الضمير وغياب الوطنية ،ارجو من السلطات العليا للبلد أن تدرك أن الباكلوريا وغيرها من الشهادات الوطنية عبارة عن رمز تثبت روح الوطن بالحفاظ عليه وتموت بقتله؛وتضعف وتضيع بإهماله.
وعلى المسؤولين عن العملية التربوية أن يدركوا أن لوبيات الفساد المتغلغلين في الوزارة لا يمكن الاعتماد عليهم في ثورة البناء التي تتطلب الصرامة والتجديد والرقابة كما تتطلب العقوبة قبل المكافأة ،وعليهم أن يدركوا أن استقالة كل من له صلة بموضوع التسريب احفظ لماء الوجه وادعى للوطنية من التشبث وتدافع التهم.
فلا رمي التهم وتدافعها علنا أو ضمنيا من طرف الوزير إلى المدير أو منهما إلى مدير الامتحانات أو رؤساء المصالح أو العكس ؛كل ذلك لا يجدي ولا ينفع.وعلى القيادة الوطنية أن تقيلهم إن لم يستقيلوا ،ومهما تمت السيطرة على القضية ومهما ضيقت دائرة الاتهام أو الجناية ومهما ضبط الجاني الذي لا ينبغي التأخر في إنزال العقوبة اللازمة في حقه فإن كل ذلك لا يبرئ ساحة الوزير ولا المدير فالكل مذنب ومقصر وعليهم الاعتراف.