........................1.......................
كانت عقارب الساعة تتحرك ببطء متجاوزة الثالثة والنصف ليلا، بعيدا هناك في وهدة من الأرض، حيث تناثرت بيوت مهلهلة هشة، على حافة "ترحيل دبي"، على هامش الهامش في الجزء الهامشي من العاصمة نواكشوط.
يطرق زوار الفجر، باب أحد هذه البيوت الهشة، حيث تغط في النوم، ثلاث نسوة، وحفنة من الأطفال، وشيخ أقعده السن والمرض، موزعين بين "امبار" متهالك، وغرفة غير مكتملة، سدت فتحات نوافذها وأبوابها بخرق بالية و"زكايب".
لحظات ويعيث "الزوار" فسادا في المكان..
أرهبوا وأرعبوا، ثم حملوا ما أرادوا، وعادوا إلى قواعدهم سالمين.
انقشعت المعركة غير المتكافئة، ولم يبق في البيت سوى أواني منزلية متقاعدة منذ أمد بعيد، وقطع أثاث مهترئة، عبث بها "الضيوف"، ثم قلبوها يمينا وشمالا، تحت أنظار أصحاب المنزل، بحثا عن مخابئ محتملة لمدخرات عائلية..
......................2...................
على بعد عشرة كيلومترات، كان صوت فنانة شعبية كبيرة، يشق الهدوء في حي "صكوكو" المخملي في الزاوية الشمالية الغربية من نواكشوط، مترنمة بــ"شور" أبدعته على شرف شابين يدخلان الليلة، القفص الذهبي.
كان صوت الفنانة ما زال مبحوحا، من تبعات نزلة برد، رافقتها من رحلة أسبوع، أحيت خلالها "مناسبة اجتماعية" في مدينة خليجية حارة، يبالغ الناس عادة في مواجهة مناخها الحار والرطب، بمكيفات قوية، تهدر على مدار الساعة، لكنها أصرت رغم توعك صوتها، ومتاعب السفر، على أن تكون هنا هذا المساء، حيث يجب أن تكون إلى جانب بنت صديقتها المقربة.
تناثرت أوراق اليورو الحمراء، فغطت مساقط رجلي الفنانة، تبعتها عاصفة من أوراق الدولار، خضراء ملساء، تسر الناظرين، قبل أن يأتي دور "أوقيتنا"، فانهمرت على الحلبة، وفوق رأس الفنانة، رزم منها مكتنزة على استحياء يقتضيه المقام، وحضور "علية" العملات.
.....................3.................
على تخوم حي "انبيت عشرة" تحت عمود كهربائي يتيم، يبحلق بقلق في الظلام المحيط به، تثاءب عسكري كسول، ممدد بصعوبة في الصندوق الخلفي لسيارة رباعية الدفع، استهلت صارخة منذ ثلاثة عقود، في بلاد الشمس المشرقة، ثم تحسس جيوب بدلته الملتصقة بجسمه تقريبا منذ عدة أيام، باحثا عن غليونه، ثم استخرجه بصعوبة، ويده ترتعش من تأثير الرطوبة والإعياء وطول السهر، وألقمه تبغا رديئا، وأعمل الولاعة، ثم نفث الدخان من رئته المتعبة، وتململ قليلا، ثم أمر السائق بالتحرك نحو موقع جديد، فالدورية يجب أن تكون متحركة، حتى تغطي مساحة كبيرة من هذه الأحياء البعيدة من مركز العاصمة، والتي تشهد دوريا حوادث سطو وتلصص وحرابة متنوعة.
....................4..................
الساعة الرابعة فجرا، في بيت من البيوت الواقعة في "الخليج" الممتد من فراج الديك نحو الزعتر، تثاءب مدون، وهو يداعب في كسل لوحه مفاتيح جهاز كومبيوتره العتيق، وهو يمزج صورة تلقاها قبل قليل من "مصادره الخاصة" مع تعليق اكتملت كلماته بصعوبة بين جرعتين من الشاي المر، الذي يزيد "نعناع بوكي" مذاقه قوة وحدة..
استوت الصورة أمام عينيه، بأصباغها وألوانها، بعد ما أعمل فيها، ما أتيح له من مهارات وفنيات التزويق والبهرجة، ثم أنزلها، على واجهة صفحته على "الفيس بوك" ومهرها بتعليق ناري، ركز في كلماته السبع، كل آماله في "غد أفضل" مشيدا بخصال مسؤول أحد القطاعات الأمنية، ثم رفع يده ليزيح الجهاز، ويستقبل نوما هانئا.
....................5.......................
تراقصت أضواء الشارع المضاء بعناية، أمام منزل وزير قطاع سيادي كبير في حي "صانتر أمتير"، حك الحرسي الشاب ذقنه، وتثاءب ملتفتا في اتجاهات مختلفة، ثم عاد أدراجه نحو غرفة الحراسة المقامة عن بوابه المنزل.
ألقى نظرة على الغرفة، تأفف قليلا من الأشياء المبعثرة بها، استقرت عينه على "مواعين الشاي" عند أقدام زميله الذي يغط في نوم عميق.
تذكر زملاءه في مواقع أخرى يقضون وقتا طويلا، يواجهون المخاطر المختلفة، مقابل راتب زهيد، وظروف حياة صعبة، فيما هو بفضل تدخل وجيه كبير من عائلته، ينعم منذ سنوات، بحياة كريمة عند باب منزل الوزير، يأتيه الطعام الجيد كل حين، ويتاح له يوميا، أخذ "دوش" رائع بالحمام الخارجي في "حوش" المنزل كيف شاء.
....................6.....................
جلس الوزير المعين قبل أسبوع، في مكتبه الوثير، وقد وصل مبكرا وفي في نفسه بعض القلق من أول اجتماع عمل سيعقده مع خبراء أجانب يعملون مع قطاعه.
أجال بصره في المكان، وأصابعه تعبث لدقائق بجهازي التحكم الخاصين بالمكيف و التلفزيون المثبتين في مواجهته كحارسين يرقبان في صمت.
ضغط على زر عن يمينه، فجاءه الكاتب الخاص، وهو نصف واقف، ثم أكمل استدارته وانتهى قرب الزاوية، منتظرا التعليمات.
تفاجأ الوزير بكاتبه، فهو لم يكن مستعدا لإعطاء أي تعليمات، فقد وضع أصبعه على الزر لا شعوريا، وهو مستغرق في الاجتماع المرتقب.
كان قلقا من هذا الاجتماع، فالتقرير الذي وصله قبل يومين عن جدول أعماله، كان معقدا ومليئا بالمصطلحات التقنية المتشابكة، وتضمن الكثير من الإحالات لتقارير وخلاصات أعمال لجان سابقة، كان سلفه يترأسها.
وجد صعوبة في فهم عدة محاور من التقرير، رغم العروض التي تلقاها مكتوبة، مشفوعة بشروح مستفيضة من ثلاثة من المستشارين، ومدير مكلف بالملف.
أيقن أنه لن يفهم الكثير مما سيقال، خلال الاجتماع، وبات تفكيره منصبا على طريقة يفوت بها على معاونيه فرصة ملاحظة قدراته المحدودة، ويخلق بها نوعا من التفاعل، ولو الشكلي، مع الخبراء الأجانب.
.................7...............
في "شارع الرزق" يغالب الحمال المحترف، ذي العقود الخمسة، آلام ظهره، وهو يمسح العرق المنهمر على جبهته المتغضنة، بطرف ثوبه، بعد ساعات متواصلة من العمل، أفرغ خلالها مع ثلاثة زملاء، شاحنتين جاءتا صباحا، تنوءان بحمل ثقيل من ميناء نواكشوط.
أسند ظهره المرهق إلى صندوق كبير من بسكويت رديئة، تزاحمت فوقه عدة "تواريخ إنتاج وانتهاء صلاحية" بحبر أسود باهت، ورفع قطعة خبز حافية نحو فمه الأدرد، وأتبعها بضع حبات من "كرته"، وسرح به التفكير، في متطلبات البيت، التي زودته ربة المنزل، فجرا قبل مغادرته، بقائمتها شفهيا.
تحسس جيبه، فتذكر ميزانيته المتواضعة، التي لا تكفي حتى لاقتناء اثنين من قائمة المتطلبات التي بحوزته.
.....................8...................
في حي "الغريقة" الطرفي، عادت "انجاية" حاملة ما تمكنت من جلبه من خضار وأسماك، ثم شرعت في ترتيب بضاعتها المتواضعة، تحت خباء مبرقع، بالكاد يقيها أشعة الشمس الحارقة، في هذا اليوم الخريفي القائظ.
كانت أول القادمات للتزود من بضاعة "انجاية" سيدة في العقد الرابع، انضمت قبل أشهر فقط، لسكان الحي قادمة من مسقط رأسها في بلدة "مقطع العريش" هناك عند ملتقى منطقتي آفطوط والركيبة.
لم تكن السيدة تحمل لاقتناء هذه البضاعة سوى علاقات ود وصداقة، نسجتها مع صاحبة المحل الصغير، التي اعتادت أن تقيد في دفتر، بخط ابنها التلميذ بالإعدادية، ما يقترضه زبناؤها، على أمل قضاء ثمنه في وقت لاحق، لا يزداد في كل مرة إلا بعدا.
.................9....................
تجول الرجل طويلا في محلات معارفه، منذ الصباح، باحثا عن ثمن دواء أحد الأمراض المزمنة تتعاطاه زوجته المقعدة بالكامل، ثم لاحت في ذهنه فكرة حسبها مخرجا من أزمته المستعصية.
قادته قدماه شمالا، ثم انعطف شرقا، وهاهو بمحاذاة ملعب العاصمة، وهاهو يضطر للتكدس مع عدد كبير من المارة، على حافة الشارع الكبير، تحت شمس حارقة، حتى يمر موكب مسؤول كبير.
فجأة جاءت سيارة تاكسي مستعجلة، انفلتت من الزحام من شارع قريب، وهاهو صاحبها يحاول التحكم فيها، وهي تتقدم بسرعة جنونية، بعد ما تعطلت فجأة مكابحها، وسط الجموع، ليجد نفسه ممددا في سيارة "فاعل خير" مع آخرين تحث بهم الخطى بصعوبة نحو المستشفى الوطني.
.................10................
في فندق "أزلاي" وسط العاصمة، صفت الموائد، تحت الخيام المضروبة في جو رائق، غير بعيد من المسبح الكبير.
تعالت الضحكات والتحايا، وشرع أعضاء وفد الحزب الحاكم يوزعون الابتسامات، وهم يصافحون مستقبليهم من كبار رعاة مبادرة دعم رئيس الجمهورية، وتثمين إنجازاته.
المبادرة هي تجمع جديد، تفتقت عنه عبقرية أطر ووجهاء من ولايات الضفة والوسط، وراهن رعاته على أن يكون الحزب الليلة ممثلا بقيادات الصف الأول.
إلى جانب ذلك، راهن المنظمون على تغطية إعلامية قوية، تطير بالحدث، وتوصله بالبريد المضمون، إلى ساكن قصر "أم ركبة" غير البعيد من المكان.
وربما من وحي عامل القرب الجغرافي، اختاروا فندق "أزلاي" على غيره من الفنادق.
على الموائد العامرة بالطعام الجيد، توزع المدعوون، وحرصوا أن يكون على كل مائدة، أحد أصحاب الأقلام والصفحات الفاعلة على وسائط التواصل والمنصات الإلكترونية.
مضت ساعات، تخللها الكثير من الرياء والمظاهر، وتبادل الود الكاذب، ولغة الخشب الخرقاء، ثم بدأ المدعوون في الانصراف.
كانت أعين ثلة من الحضور من نوع خاص تنتظر فرصتها، فهي لا تحين إلى بعد انصراف الكبار.
تهارشت حفنة من عمال الخدمة ورجال الحراسات، غص بهم الموقع، منذ ساعات، على بقايا الموائد، كل واحد منهم، يود الظفر بما تيسر لنفسه، ولأسرته التي تنتظر بعيدا هناك في الجزء القصي من العاصمة، بعيدا عن الجزء المنعم الباذخ.
خرج الشاب القاطن بحي "البصرة" من المنازلة، بعدة دجاجات محمرة، وربع شاة مشوية، وكمية من التمور الجيدة، وعدة علب من العصائر والمشروبات الغازية.
هاهو ينزل من تاكسي متهالكة، حاملا غنيمته، فرحا بما كسب، يتمنى لو يجد أطفاله مستيقظين..
كان كل أمله أن "يذيقهم" من خيرات وطنهم.
محمد ولد حمدو