في يوم الأحد 24 نوفمبر، شهدت عدة ثكنات عسكرية في العاصمة البوركينابية وضواحيها تمردا عسكريا، شابه إطلاق للنار، أعلنت الحكومة إبانه أن الأمر "معزول ولا يستدعي القلق". في حين وجه الرئيس مارك روش اكريستيان كابوري، عبر صفحته في اتويتر، دعوة إلى من حملوا السلاح "لوضعه خدمة لمصالح البلد"، موضحا أن "حل المشاكل يجب أن يكون بالحوار والإصغاء". فيما دعا حزب الحركة الشعبية من أجل التقدم الحاكم لـ"التعبئة الفورية الشاملة ضد الانقلاب بغية الحفاظ على المكاسب الديمقراطية". إلا أن الأحداث تسارعت وانتهت بانقلاب عسكري صريح. وفي صبيحة الثلاثاء، نشرت وسائل الإعلام الرسمية رسالة بخط يد الرئيس كابوري أعلن فيها استقالته "حفاظا على المصلحة العليا للبلد".
إذن وقع الانقلاب الثالث على الديمقراطية في المنطقة بعد انقلابي غينيا ومالي، لكن من هو قائده؟ وما هي قواسمه المشتركة مع قادة الانقلابين الآخرين؟ وما هي مشتركات الوضع الذي أدى إلى موجة الانقلابات الأخيرة؟ ولماذا وجد الانقلاب العسكري تأييدا من الجماهير في بوركينافاسو كنموذج لباقي بلدان المنطقة؟
انقلاب 24 يناير في بوركينافاسو قاده العقيد بول هانري داميبا، البالغ من العمر 41 سنة. ويتميز هذا الضابط بكونه مثقفا، كان متفوقا في مشواره الدراسي، وقد أصدر كتابا بعنوان "جيوش غرب إفريقيا والإرهاب: الرد غير المناسب". ورغم أنه لا يعرف عنه الكثير، إلا أن الرئيس المخلوع كابوري كان قد عينه مؤخرا على المنطقة العسكرية المكلفة بأمن العاصمة وغادوكو.
ويتقاسم زعيم الانقلاب في بوركينافاسو العقيد بول هانري دامبيا مع قائديْ الانقلاب في غينيا ومالي العقيد مامادي دومبيا والعقيد آساكي اغويتا كونهم جميعا من فئة الشباب، فالبوركينابي يبلغ 41 سنة والغيني يبلغ 43 سنة والمالي يبلغ 40 سنة.
كما يتقاسمون اختيارهم من قبل الرؤساء المدنيين المنتخبين ليحظوْا بترقيات خاصة بهم تبرهن على مدى ثقتهم فيهم، فقائد الانقلاب في بوركينافاسو، العقيد بول هانري، رقاه الرئيس كابوري ليعينه قائدا للمنطقة العسكرية الثالثة التي تتحكم في أمن واستقرار العاصمة بما فيها القصر الرئاسي، وقائد الانقلاب في غينيا مامادي دومبيا رقاه الرئيس ألفا كوندي من مقدم ليصبح عقيدا ويعينه على القوات الخاصة بأمن الرئاسة، وقائد الانقلاب في مالي العقيد آساكي اغويتا عينه الرئيس الراحل إبراهيم بابكر كيتا قائدا لفيلق القوة الخاصة. وقد تقاسم هؤلاء الثلاث فكرة الانقلاب على من كانوا محل ثقتهم فأسقطوهم في تجربة مماثلة حدثت في موريتانيا شهر أغشت 2008 عندما أسقط الضابط محمد ولد عبد العزيز الرئيس المدني المنتخب سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله بعد أن رقاه إلى رتبة جنرال غير المسبوقة في تاريخ الرتب العسكرية بموريتانيا.
كما يجب التذكير أن قادة الانقلابات الثلاثة يتقاسمون تجربة كبيرة في محاربة الإرهاب ميدانيا، أي أنهم اشتركوا في العمليات القتالية المباشرة، ما خول لهم القدرة على تقييم قدرات جيوشهم، والاطلاع على الإمكانات الكبيرة للجهاديين، واستيعاب الخلل البنيوي الذي جعل الحكومات تفشل في الوقوف أمام هجمات الجماعات المسلحة، الأمر الذي قادهم، ربما، إلى اتخاذ قرارات متشابهة في إسقاط أنظمتهم.
من جهة ثانية، فإن منطقة الساحل تتقاسم انتشار المد الجهادي، كما تتقاسم فشل سياسات مواجهة الإرهاب (عسكريا وأمنيا ودينيا واجتماعيا)، كما أن حكوماتها فشلت في حماية المنطقة من التهريب والهجرة السرية والجريمة المنظمة. وهكذا يبرهن الانقلاب في بوركينا فاسو، بعد الانقلاب في غينيا ومالي، على فشل الديمقراطيات التي لم تستطع القضاء على التهديد الإرهابي بمنطقة الساحل، وبالتالي عجزت عن حماية الأنفس والممتلكات، وأدخلت المنطقة في دوامات من عدم الاستقرار وانهيار الاقتصاد وتراجع القوة الشرائية وانتشار البطالة، مما زاد من حجم هجرة الشباب والقوى الحية، وفاقم غياب الأمن وانتشار الجريمة، وفي الأخير فتح الباب أمام انقلابات متتالية لم تجد أدنى معارضة من قبل القواعد الشعبية والقوى المدنية.
إن عدم خروج الجماهير ضد هذه الانقلابات، بل خروجهم لمناصرتها على نطاق واسع، ألهم بعض المحللين تسميتها "انقلابات عسكرية شعبية" أي أنها تجد سندا لها في قبول الشعب على عكس ما هو معروف من نفور الشعوب من الانقلابات التي تجرعت ويلاتها في العقود الفارطة.
والحقيقة أن الخوف لم يعد عائقا أمام الجماهير للخروج ضد الانقلابات كما هو الحال إزاء الـ 70 انقلابا عسكريا التي عاشتها القارة ما بين 1958 و2018، فانتشار القنوات التلفزية وتأثير الانترنيت، والتعود على مشاهدة الاحتجاجات في العالم، وانتشار الوعي وتراكم التجارب، كلها أمور جعلت الجماهير مستعدة للتعبير عن رفضها في الشوارع. وهذا ما رأيناه في بوركينافاسو نفسها عندما خرجت الجماهير لإفشال محاولة انقلابية سنة 2015. ما يعني أن خروج الجماهير لتأييد الانقلابات الأخيرة في المنطقة كان صادقا، أما صمت البقية منهم فشكل نوعا من قبولها والتوقيع عليها. فالرئيس البوركينابي، روش كابوري، مثلا، شكّل أملا لمواطني بوركينافاسو في التجديد والقطيعة مع ممارسات الماضي، غير أن الأمل فيه، كما هو حال نظرائه، مات بشكل متسارع بعد ما عرفته البلاد من فساد ورشوة غير مسبوقين، وبعد الفشل الذريع في وقف تقدم الجهاديين وعملياتهم الفظيعة في القرى والأرياف.
لقد اعتمد نظام الرئيس البوركينابي روش كابوري استراتيجية إنكار العمليات الجهاديين في الوهلة الأولى، ثم بدأ يعلن عنها مع التقليل من شأنها، وعندما لم يعد الرأي العام مقتنعا بمثل تلك الدعايات أصبح يقوم بحملة إعلامية يؤكد من خلالها أن الأمر يتعلق بمؤامرات يقف وراءها الرئيس السابق كومباوري. أما النخبة العسكرية فقد بقيت في العاصمة والمناطق الجنوبية بعيدا عن فيالق الجنود المعزولة التي تتلقى الهزائم تلو الأخرى بسبب انعدام المؤونة والذخيرة والتكوين. فيما هاجز جل السكان الشماليين تاركين قراهم ومزارعهم بعد أن أصبحوا عرضة للذبح يوميا. هذا بالإضافة إلى الكشف عن شراء الحكومة لخمس طائرات هليوكابتر متعطلة أصلا ضمن عملية اكتنفها الغموض. إنها أمور عجلت كلها بالانقلاب في محاولتين خلال شهر واحد، فشلت الأولى منهما يوم 11 يناير الجاري ونجحت الثانية في يوم 24 من نفس الشهر وبتأييد شعبي كبير ساهم فيه عدم الاكتراث بشجب الاتحاد الإفريقي وعدم أهمية العقوبات التي يفرضها التجمع الاقتصادي لدول غرب إفريقيا.
وأخيرا، لابد من التذكير بأن العنف الجهادي في بوركينافاسو خلف 2000 قتيل ومليون ونصف مهجر أو مشرد حسب المتاح من الإحصائيات، كما أن مذبحة إيناتا، يوم 14 نوفمبر المنصرم، خلفت لوحدها 53 قتيلا بينهم 49 دركيا ما حدا بالجماهير إلى الخروج إلى الشارع تعبيرا عن الاحتجاج ضد فشل النظام المدني، الحاكم ديمقراطيا، في مواجهة الإرهاب. وبالفعل كانت تلك بداية غضب شعبي على ضعف المدنيين أمام الأزمة المتعددة الأوجه التي طالت كل مناحي الحياة، لدرجة أن مدير مكتب دراسات "افري آفريك" بواغادوكو، سايدو أودراغو، صرح بأن "الانقلابات لم تقد إفريقيا أبدا إلى التقدم، لكن الشعوب، أمام أكبر أزمة في تاريخ المنطقة، لم تعد تبحث عن القيّم، وإنما تبحث عن الرجال الأقوياء".