يُطرح هذا السؤال على نحو موضوعي أمام الحوار الذي تدق طبوله الآن محدثة أصواتا نشازا ومختلطة بالنسبة للجوق الذي عليه أكثرية الشعب وأمام التساؤلات الوجيهة عن: أين الانعكاسات الواقعية لتلك الحوارات السابقة على الحياة وترقية الفعل والأداة السياسية في البلد أو على الهدف الكبير للديمقراطية الذي هو خلق فرص التناوب، أو على الأقل على مفردات الخطاب السياسي؟..
إننا نعيش تأجيجا مستمرًا، وتهديدا للسلم العام، وزيادة في وتيرة التشنج والتوترات الاجتماعية، رغم التقدم في حسم القضايا من الناحية القانونية بواسطة الحوارات السابقة. فهل أن المشاكل لا تحل؟ أم أن الذين يناقشونها لا يملكون تفويضا، لكي لا نقول المصداقية الكافية الملزمة؟. ما هي الخبرة التي اكتسبناها من الحوارات السابقة؟ أين توقفنا؟ ومن أين سنبدأ؟ هل سنبدأ من 1963؟ أم حتى قبل ذلك؟ أم من 1966؟ أم 1989؟ أم من 1992؟ أم من بعد ذلك؟! أين هي النقاط المرجعية لتقييم نجاح هذا الحوار أو فشله؟ وتحت أي رقم سندرج هذا الحوار؟
ما هي الفكرة المحركة لهذا الحوار؟ هل هي لتسوية أرضية اللعبة؟ أم لتجديد طموح السياسيين وجلودهم واكسابهم مصداقية جديدة بعد سنوات من عدم الفاعلية السياسية؟ أم لتجديد شرعيتهم وألقابهم التي يرشحهم لها الأتباع؟ أم هي جلسة تأسيسية لحسم قضايا التاريخ،.. أين الشعب الذي نتحاور بإسمه؟ أين هم ممثلوه الحقيقيون الذين يحملون شرعية الشارع ونبضه وهمومه؟ كم يحمل هؤلاء من الأصوات المعبر عنها في الواقع؟.
إن حجم ونوعية الأسئلة ووجاهتها لا تتوقف أمام هذا الحوار، بل لا يمكن التنبؤ بحجم الاصطفافات والاختلالات أو بنوعية الإضافات الإيجابية مقارنة بالحوارات السابقة إذا تطلعنا للوجوه التي ستشارك في الحوار والتي ستحاول سرقة الأضواء.
وفي كل الأحوال، تبقى المشكلة الوحيدة هي أننا لا يمكن أن نمد الأصبع في شيء ناجع ونقول: هذا من فعل الحوارات السابقة ، أي أيّ شيء يتعلق بالمساواة، بالعدل، بالتناوب، أو ضمانات الشفافية، أو بالتوافق السياسي، أو تحقيق خطوط عريضة أو سقوف لا يمكن أن نختلف عليها.
لا أعرف دوافع الرئيس غزواني لقبول هذا الحوار، ولا أعرف- بالمقابل- ما هو الشيء الذي تعرف معارضتنا طلب تكراره غير الحوار !ولا أعرف في البلد ماكينة أكثر إنتاجا للفشل من ماكينة الحوار بالنسبة لتنمية الديمقراطية وكسب تنازلات مهمة. لكن من المؤكد، رغم قبول الجلوس إلى طاولة الحوار، أنه لا يمكن التنبؤ بنجاحه أمام حجم الأفكار المسننة أو الفرص التي سيفتحها هذا الحوار لتلك الأفكار اللاعقلانية والتي سيكون الحوار قد فشل بعدم قبولها!.. فهل يمكن أن نلتئم على حوار فاشل مسبقا !!!!
لا يمكن لأحد أن يعترض على مبدأ اوفكرة الحوار، لكن أي نوع من الحوار ذلك الذي نحن بصدده؟ وهل هناك فكرة جديدة تجعل هذا الحوار واعدا أو مختلفا !!!!
كل الشعب اليوم يفقد أي أمل في نتائج هذا الحوار لأن مشاكله من نوع الأسعار والبطالة والفقر وضعف الولوج للخدمات العمومية وللوظائف عن طريق الامتحانات، ليست ولا يمكن أن تكون موضوع هذا الحوار؟
الزعماء الذين سيتحاورون اليوم أغلبهم من أجيال الماضي، ويوجدون على مسافات شاسعة مع تفكير القوة التي تصنع الحدث اليوم، وبعيدون من شرعيتها الاجتماعية خاصة من الشباب الذي يزن 70%من الشعب الموريتاني ويشغل 90%من محركات التواصل الاجتماعي القادرة على التعبئة في مجتمع يرتبط 44%منه بالإنترنت ، فثلاثة شباب فقط من أصل مليون حساب على الإنترنت يحظون بمتابعة 700 ألف شخص، فما هو سر هذا الجذب؟ هل يوجد في خطابات الزعماء وبرامجهم الحزبية طاقة جذب بهذا الحجم؟ بمعنى: هل سيرضى الشباب برضاهم؟ وهل سيسخط يسخطهم؟ أي: هل لهم فعلا نفس القبول؟ وهل لديهم خطابات سياسية تحقق طموح ورغبة هؤلاء الشباب ؟!! وهل يتضمن الحوار تحقيق رغبة هؤلاء في نموذج الدولة الذي يحلمون به؟
الواقع أن هؤلاء الشباب لا يثقون في الأداء السياسي لهذه النخبة، ولا بالتسويات التلفيقية، ولا يريدون حوارا يكرر نفس الإخفاقات: مزايا للسياسيين، وتراجع للأداء السياسي، وإغلاق الباب أمام الشباب وطموحاتهم وقدرتهم على تحريك دفة السياسية والاقتصاد في البلد.
لقد كان من أهم مخرجات الحوارات السابقة اللجنة المستقلة للانتخابات التي تعيش في تعارض صارخ مع قوانينها ونظامها الأساسي وضد الشرعية السياسية والأهداف التي أنشأت من أجلها، والمجلس الدستوري الذي بات أشبه بآلة مربوطة بالرئيس خاصة في الأمور الجوهرية، كما خلقت -أي الحوارات- الظروف لترشح جدي وحيد دائم للرئيس الموجود في الكرسي وشرعية إعادة "تدويره", وقد فهم ولد عبد العزيز ذلك واستجاب لطلبات الحوار لكي يحصل على شرعية ما كان ليحصل عليها لولا تلك الحوارات!! كما أن جميع "محظيات" الحوارات السابقة مطروحة على طاولة المراجعة لعدم تحقيقيها الطموح الوطني لخلق مجال أوسع لتكافؤ الفرص والحظوظ بين الفاعلين والمهتمين بالشأن الوطني، وفتح الباب لفاعلين جدد في الساحة من الشباب، وتزويد الأحزاب الشخصية بعمر أطول.
وفي الختام، أعتقد أن الحوار سيكون ملفا ثالثا يضاف إلى ملف عزيز وملف كورونا ليضيف عرقلة جديدة للعمل الوطني … إنه بناء جديد لبرج بابل للصراخ والبيانات النارية. ولن يكون بمقدور أي أحد أن يحرز ، في النهاية، شيئا يذكر !!!
محمد محمود ولد بكار