دقة - حياد - موضوعية

... سنعيدها سيرتها الأولى/ بقلم الأستاذ محمدٌ ولد إشدو

2016-02-04 23:13:42

أهو البعث والقيامة من الموت؟ أم النهوض من الكبوة، والشروع في إعادة التأسيس على خطى الأمجاد من الآباء والأجداد؟

.

أجل.. لقد نهضت موريتانيا- بلاد شنقيط من منيتها، وكسرت قبل غيرها قيد الهيمنة والصهيونية والهدر والإذلال، لتستأنف بخطى حثيثة سيرتها الأولى على درب المجد الذي درجت عليه منذ نعومة أظافرها.

تهكموا ما استطعتم أيها المخلفون المرجفون المشككون، واسلقوا أنفسكم وأهليكم بألسنة حداد، واجحدوا نعم الله على بلادكم، وتشبثوا بالمظاهر والقشور. أما الجوهر فباق رغم ما شابه من صدأ أزمن العثرة والنكوص، ولن تدركوا كنهه لنصاعته ووضوحه لأولي الألباب والأبصار.

***

عندما شجبت زمرة من الكادحين وألغت بإجماع قرار خوض النضال المسلح الصبياني ضد نظام يقوم بإصلاحات وطنية، وأعلنت في منتصف سنة 1973 من كوخ في المنفى سياسة الوحدة الوطنية، ودعت النظام إلى قيام جبهة متحدة ضد الاستعمار والرجعية، وسعت إلى تحقيق ذلك؛ كانت في الواقع تقوم بفعل ريادي..لا في موريتانيا فحسب؛ بل وعلى مستوى القارة الافريقية والعالم العربي. وكان الرد المفضل يومها لمناوئي تلك السياسة من "اليساريين" المتطرفين هو: "أيعقل أن يكون مثقفو موريتانيا الوليدة المتخلفة سباقين إلى بلورة وانتهاج سياسة لم ينتهجها أي حزب طليعي في قطر من محيطها؟!".

وقد رد الكادحون بالإيجاب. وكانوا يعون ما يقولون، ولا يتكلمون من فراغ. إذ بالإضافة إلى ما تراكم لديهم يومئذ من معرفة وممارسة صحيحتين، كانت تتراءى أمام أعينهم تجارب وإرث المرابطين والماميين من جهة، وكذلك مآثر السياسة الخارجية التحررية لدولتهم الوليدة التي تحدت جبروت الغرب المهيمن باكرا فتحالفت مع مصر عبد الناصر واعترفت بالصين الشعبية وآزرتها في استرجاع مقعدها في الأمم المتحدة، وساندت قضايا التحرر في الجزائر، وفلسطين وفيتنام وكامبودج ولاوس وشعوب جنوب إفريقيا وروديسيا وغينيا بيساو والرأس الأخضر، وقطعت علاقاتها الدبلوماسية مع أمريكا وبريطانيا إثر عدوان 67، وطردت إسرائيل صاغرة من إفريقيا.

وعلى رغم أنهم - أي الكادحين- لا يعرفون يومئذ الكثير عن لبنتين أساسيتين إضافيتين في ضمير الوطن، إلا أنهما كانتا حاضرتين في مخزون لا وعيهم الريادي؛ واللبنتان هما:

* ثورة ناصر الدين الانعتاقية التي أعلنت الحرب وحدها من بين البشر على تجارة الرقيق وعلى أوروبا العبودية في صدر القرن السابع عشر، وصاح قائدها صيحة الخليفة عمر بن الخطاب فقال: "إن الله حرم على أولي الأمر نهب أموال رعاياهم وسفك دمائهم واسترقاق رقابهم، وإنما أوجب عليهم رعايتهم وحمايتهم من أعدائهم. إن الرعية لم تسخر لأولي الأمر؛ بل أولو الأمر هم المسخرون للرعية".

"Dieu ne permet point aux roys de piller, tuer ni faire captifs leurs peuples, qu’il les a au contraire pour les maintenir et garder de leurs ennemis, les peuples n’étant point fait pour les roys, mais les roys pour les peuples".

وظل ناصر الدين يحارب الاستعمار الأوروبي وتجارة العبيد جنوب وشمال نهر السنغال إلى أن نال الشهادة في وقعة ترتلاس شمال تگند.

* مقاومة السلطان محمد لحبيب ولد أعمر ولد المختار للتوغل الفرنسي، وحربه على سان لويس، وحلفه مع مملكة "والو" ضد الفرنسيين وزواجه من ملكة والو جنبت امبوج. ذلك الزواج الذي يقول عنه رنولت دي سين جرمان: "إن هذا الزواج الذي سيضع ذات يوم تاج هذا البلد على رأس ملك من البيظان، وقد وضعه على رأسه في الحاضر، ينسف القاعدة الأساسية التي ترتكز عليها المستعمرة، وهي حياد الضفة الشمالية (والو) خلال صراعنا المستمر مع البيظان... إن سيطرة البيظان على والو ستؤدي إلى سيطرتهم على معادن الملح في غنجول، وعندها فإن سان لويس التي أحيط بها من جميع الجهات سوف تنتهي لا محالة" (مملكة والو ص 257 بوبكر باري).

Renault de Saint-Germain disait : "Ce mariage qui devait mettre un jour la couronne de ce pays sur la tête d’un roi  maure, Et qui l’y mettait  dés à présent, mine la base fondamentale sur laquelle la colonie est assisse, la neutralité de la rive gauche durant nos fréquentes querelles avec les maure Il ajouta que la mainmise des maures sur le Waalo aurait été suivie par celle sur mines de sel du Gandole, et Saint-Louis, ainsi entouré de tous cotés, périrait irrémédiablement".

***

ونجحت سياسة الوحدة الوطنية، فتوطدت وتوسعت مكاسب الوطن والشعب: إلغاء الاتفاقيات الاستعمارية المجحفة، الخروج من منطقة الفرنك وإنشاء عملة وطنية، تأميم ميفرما وسوميما وبياو، ترسيم اللغة العربية، والعمل على كتابة وإحياء اللغات الوطنية الأخرى، صدور عفو عام بموجبه تصالحت موريتانيا مع نفسها، اتباع سياسات اجتماعية لصالح الشعب، ضخ دماء جديدة في الحزب والدولة، وصدور ميثاق وطني تقدمي.

وجاءت حرب الصحراء، والانقلاب العشائري الدائم على الشعب الذي أعقبها، فأتيا على الأخضر واليابس، وتاهت موريتانيا ونكصت حينا من الدهر... لكن ها هي اليوم تنهض من كبوتها من جديد:

* فموريتانيا التي كان يسود فيها الفساد المطلق والهدر و"الكبَّات" والاضطهاد العرقي والضياع قد ولت إلى غير رجعة. وأعلنت الحرب على الفساد والهدر و"الكبات" وتكللت معظم معاركها بالنصر، وتصالحت موريتانيا الجديدة مع نفسها فتمت تسوية ملف الإرث الإنساني وأعيد المهجرون إلى الوطن، واتبعت سياسة تمييز إيجابي لصالح الفقراء والمهمشين، وها هي تتصدر الدعوة إلى الشفافية والإصلاح.

* وموريتانيا التي كانت تتحكم فيها السفارات الكبرى ويرفرف في سمائها العلم الاسرائيلي الغاصب النجس، أصبحت تملك مصيرها وتتحكم في قرارها، وهي أول دولة عربية تنزل العلم الإسرائيلي من سمائها وتطرد إسرائيل داحرة ذليلة من أرضها.

* وموريتانيا التي كانت مأزومة ومريضة بالانقلابات والفوضى لحد يشغل العالم من حولها، وقفت على قدميها واستقرت أحوالها، وهبت تعالج مشكلات وأزمات العالم من حولها في مالي وساحل العاج وبوركينا فاسو وليبيا وتونس ومصر.. الخ.

* وموريتانيا التي كانت متسولة تمد يدها للجميع، قد أصبحت اليوم مانحة ومواسية ومساندة دون من أو أذى.

* وموريتانيا التي كانت مستباحة من طرف الإرهاب، ولا يملك جيشها المحطم حيلة، أصبح لديها اليوم جيش قوي يحميها ويؤمنها ويضع له الأعداء والأصدقاء ألف حساب. وها هي ترسل أفواجا مدرعة لحماية الأمن والسلام في العديد من دول محيطها بعد أن خاضت حربا قاسية ضد الإرهاب وكسرت شوكته.

* وموريتانيا التي نشأت عالة على الجارة السنغال وغيرها. ها هي الآن تمد السنغال وغيرها بالطاقة وغيرها، ولا تقلع عن عادة التسول بمرضاها في مستشفيات الغير فحسب؛ بل وتقيم بنى صحية تسمح لبعض الدول الافريقية برفع مرضاها إليها.   

ترى، هل يعني ذلك وغيره أن كل شيء في موريتانيا أصبح على ما يرام، وأننا بلغنا مرادنا ومبتغانا؟ كلا طبعا. فما قد تحقق قليل بالمقارنة مع ما نصبو إلى تحقيقه. ولكنه تحقق بالفعل. وهو محاط بالأخطار ما لم تتضافر إرادات جميع القوى الوطنية لحمايته من كيد العابثين والمفسدين ودعاة النكوص "الثوريين" والإرهابيين ومن أباطرة تهريب المخدرات والسلاح. وهذا ما يبرر إلحاح الشروع في الحوار الوطني الشامل والوحدة الوطنية.

لقد تحقق ما تحقق على يد فئة من أبناء موريتانيا. فئة ليست الكادحين ولا الرئيس المختار ولد داداه ولا الرئيس أحمد ولا الرئيس مسعود ولا الإسلاميين أو القوميين، وإن كانوا قد ساهموا (كل موقعه) في التمهيد لذلك. ولكنها فئة تريد الخير لبلدها وتسعى لصالحه، ولها نظرتها الخاصة بها وأسلوبها وطريقتها في العمل. وتعمل حسب طبيعتها وطاقتها وتجربتها المحدودة، وتمد يدها للآخرين إن أرادوا... وشعارها العملي البارز: {سنعيدها سيرتها الأولى}.

تابعونا على الشبكات الاجتماعية