كنت قد تركت الميدان لأصحابه ، ولكن اهتمامي بالشأن العام وغيرتي عليه – كأي أحد منكم – ظل يشدني إلى هذا الشأن فقررت أن أبعث برسالتي هذه إلى إخوتي فى الميدان ؛ ميدان التفاوض والحوار . وقبل ذلك سأمر مر الكرام على الحالتين الدولية والإقليمية للاستئناس فقط
.أولا - الوضع الدولي وأهم مميزاته:
إن أهم ما يميز هذا الوضع :
أ – ما نشاهده من مظاهر تدل كلها على أننا فى حرب عالمية ثالثة، ربما تكون الأشرس والأوقح من سابقتيها، حرب المصالح والأطماع، والرغبة فى التفرد بالسيطرة على العالم، ميدانها الأبرز قارتا إفريقيا وآسيا .
ب – ظهور تكتلات كبرى على الصعيدين الاقتصادي من جهة وتحالفات إستراتيجية توشك أن ترقى إلى تحالفات عسكرية من جهة أخرى، للعلاقة الجوهرية بين السياسة والاقتصاد والأمن فى العالم
ج – دخول بعض الدول الإسلامية للنادى الذري النووي ووجود أخرى تقرع الباب وأخرى قد تجد نفسها مدفوعة إليه لتأمين أمنها القومي، إذ تزداد القناعة وتترسخ شيئا فشيئا بأن قوة الردع قد أصبحت ضرورة حيوية لتحقيق السلمي فى ظل انكسار الخطوط الحمراء وانعدام ما يمكن أن يحتكم إليه من مواثيق وقوانين دولية تحكم وتنظم العلاقات الدولية وتسير خلافات الدول، فحتى المنظمات الدولية الهامة كمنظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي هي الأخرى لم تعد محترمة القرارات والمواثيق، كل شيئ مخترق وغير ملزم فى عالم اليوم، والقوى العظمى هي وحدها المرخص لها بشرعية التأويل والتكييف متى وحيثما تشاء، غير آبهة برقيب أو محاسبة، فتبيح لنفسها ما تحرمه على الآخرين وتحل لنفسها ما تمنعه المواثيق والقوانين الدولية (احتكار التقنيات وصناعة السلاح الفعال).
ثانيا – الوضع الإقليمي
الوضع الإقليمي هو الآخر يعانى من إسقاطات وانعكاسات الوضع الدولي فى مجالات عدة، لعل أبرزها الفوضى وانعدام الأمن والاستقرار السياسي والحروب الأهلية، ففى المغرب ما زالت الصحراء الغربية محل نزاع بين الأشقاء فى المغرب وجبهة البوليزاريو، وفى تونس والجزائر ومالى ما زالت الأمور غير مستقرة وتعانى من انعدام الأمن، أما ليبيا فقد أصبحت - مع الأسف - فى عداد الدول الفاشلة بكل المقاييس لما تعانيه من حروب أهلية متعددة الأطراف والجبهات، والإقليم بصفة عامة يعانى من ســـعة قواعد البطالة والأمية والتخلف نسبيا.
ثالثا – الوضع السياسي فى الساحة السياسة المحلية:
وبخصوص الوضع السياسي المحلي، فقد شهدت البلاد جملة من التجاذبات بين النظام والمعارضة بمختلف أطيافها ظهرت أول ما ظهرت فى التشكيك فى صدقية نتائج الانتخابات الرئاسية لسنة 2009م من طرف بعض أحزاب المعارضة، والمطالبة بالحوار على قاعدة تفاهمات "اتفاق داكار" ، الشيئ الذى لم يستجب له الطرف الآخر ، أعقب ذلك حوار بين بعض أحزاب المعارضة مع الحكومة، أفضت إلى اتخاذ جملة من القرارات ذات الصلة بالقضايا الوطنية محل التفاوض، بينما ظلت أحزاب أخرى من المعارضة خارج اللعبة مطالبين الدولة باتخاذ بعض القرارات "الممهدة للحوار" ، الشيئ الذى لم توافق عليه الحكومة .
وفى انتخابات 2014 شاركت محموعة من المعارضة وقاطعتها أحزاب أخرى
ومع أن الحوار اليوم بات محل إجماع من الطرفين كضرورة للخروج من الحالة، إلا أنه لم ير النور بعد، بل يزداد بعدا – طرديا – مع الزمن ليزداد معه الاستقطاب والاصطفاف والاحتقان ويوغل الطرفان فى التخندق، كل وراء مواقفه، الشيئ الذى حرمنا مما نحن فى أمس الحاجة إليه وهو الاتفاق على التوافق والإجماع على برنامج وطني شامل يجد فيه كل طيف نفسه وينحاز إليه، برنامج يستجيب للمتطلبات الملحة فى المرحلة من التنمية والأمن والأمان والرخاء والعيش المشترك الكريم والسلم الاجتماعي والوحدة الوطنية.
ومع أن بلادنا تتوفر على كيمياء تحقيق هذا الحلم المشروع إلا أنه ما زال غائبا ومغيبا أيضا فى جو غيب فيه المشترك ليحل محله المعترك؛ معترك أعدم الغايات والمصالح العليا للبلد واعتمد فيه اللعب بها فى ملعب لا حكم فيه ولا كرة ولا شباك ولا هدافين، حاضره الوحيد هو الوقت الضائع .
وبناء على ما تقدم فإنني أطالب كل الأطراف بالانحياز إلى الوطن وتعليق الخلافات، ولو بشكل مسروق على تحكم النزعات والمصالح السياسية الضيقة، ومحاولة تسجيل النطاق.
صحيح أن الاختلاف والتباين فى الآراء حق مشروع ومظهر صحي ودليل على الدينامكية والحيوية، خصوصا إذا ما وظف فى البحث عن الأجدى والأفضل والأقل كلفة، أما إذا ما وظف فى تكريس الفرقة وتشتيت الجهد وإهدار القوة فهو مدمر وغير مشروع، ويجب أن يوقف سيما إذا كان الاختلاف فى المتفق عليه أصلا أو هكذا يجب أن يكون.
سبحان الله.. ما أروعها من ملاذات يحتمى بها من الحيف والظلم والجور والتغول: حرية الرأي، الديمقراطية، حقوق الإنسان، القانون الدولي، العدالة !!
الأمر لم يعد كذلك، علينا أن نتعلم القراءة المعاصرة من جديد فنقرأ المكتوب قراءة صالحة، حينها علينا أن نسبق كل شعار من هذه الشعارات بحرف النفي "لا" ، غير مكتوبة! صحيح، ولكنها الأفصح والأصح، أما أن تقرأ هذه الشعارات والقيم وتسمعها فتلوذ بها وتحتمي، فأنت واهم، وأرجو أن لا تجرب، فهي لا تعدو مخالب قط مدفونة فى ناعم قوى لا تجردها إلا عند الافتراس، والضحية دائما هو الأضعف.
ويبــقى السؤال المطروح وهو: أين نحن من هذه الثنائية؟ معادلة القوة والضعف. بالتأكيد أننا لا نمتلك من وسائل القوة الفاعلة بمنطق العصر سوى وحدتنا وتضافر جهودنا وتقويم اختلالاتنا البنيوية المزمنة، الرسمي ومنها والشعبي، هذه الوحدة وحدها التى ستشكل الرافعة الآمنة والضامنة لنمو بلادنا واستقرارها ولحاقها بالركب.
إن عليكم أيها الأخوة – الآن وليس غدا- أن تبادروا إلى التحاور والتفاوض حوارا حضاريا ومتمدنا وعقلانيا بأساليب تليق بأمثالكم وتتناسب وقاماتكم السياسية لتتفقوا على جميع المشترك وترحلوا ما اختلفتم فيه، حوار نخب تعلمت من تجاربها السياسية الطويلة كيف تدير اختلافاتها وكيف تخلق متفقا عليه من المختلف عليه واضعين المصلحة العليا والاحتياجات الملحة لمواطنيكم البوصلة الوحيدة فى توجهاتكم وحواراتكم مهما تطلب ذلك من تنازلات قد يعتبرها البعض موجعة ومؤلمة، ولكن الوجع الوطني أوجع وأكثر ألما عند من يحسه فلا وجع أكثر إيلاما من ألم اختلاف القوى الحية ونخب البلاد وقادتها وساستها ووجع المرض والأمية والبطالة فى وطن غني بأبنائه وثرواته الطبيعية والحيوانية ومياهه العذبة، ويكفيه أنه يتكئ على شاطئ من أغنى شواطئ العالم بالذهب الرمادي أو ليس من المشين والمعيب – أيها السادة – أن نترك المواطن يلتحف هذه الويلات وينتعل هذه الأوجاع فى كل ترحلاته ومقامه تحت طائلة الاختلاف ولأن فلانا ضد فلان وفلان يختلف مع علان ؟؟!!
لست أدرى إلى أين سترسو بنا السفينة فى هذا الوسط المتلاطم؟؟ وكل يدعى وصلا لليلى!! فنحن أمام دوامة من الممانعات ومباريات فى لعبة - لا توقيت لها – من عض الأصابع . إلى متى ؟؟ مهزلة يجب أن تتوقف أو توقف .
فعلام الرهان؟ نتائج الانتخابات القادمة؟ أم على أن يمل فلان أويكل فلان من المعارضة وإذا لم يمل الفلانيون من المعارضة ؟ وإذا لم تأت الانتخابات بما لا تشتهى السفن؟.
المهم أن تنطلقوا من قاعدة:
إذا درت نياقك فاحتلبها == فما تدري الفصيل لمن يكون.
++
والدرجه مخلوقت رفً == يغير الدرجه كربت فيل
ما يــــكدر حد إحشلفه== والفــلًته يوغد فى السيل".
++
لحســــان ديمه يــديًن == يــــالي لمور ادبر
الـــــدهر يولد ما بيًن == واعيايـــنكس ما خــــبًر
آن الأوان – أيها الإخوة – لتجاوز هذه المرحلة من التجاذبات وشد الحبل فى فضاء عقيم وعبثي، إن العالم من حولنا فى تطور مستمر وشامل فى مختلف مجالات الحياة، اقتصاديا وصناعيا وعلميا وسياسيا بالدرجة الأولى، فتطورت طرق الخطابة والمخاطبة والتبليغ والإقناع، وابتدعت طرق وفنون جديدة فى علم التعاطى مع الآخر إلى أن أصبح مجال تخصص، فأنشئت لذلك كليات ومعاهد للصحافة والدبلوماسية، مما أدى إلى اكتشاف حقيقة أن القدرة على الإبلاغ والتفاوض والإقناع ثروة بشرية جديرة بالاهتمام والرعاية والتنمية، باعتبارها قوة إسناد لغيرها من جبهات معارك التنمية الأخرى على قاعدة أن كل مفاوض يفوق بعائداته ريع منجم، وكيف لا ؟ وقد ورد فى القرءان الكريم "وجادلهم بالتى هي أحسن" وقوله تعالى "ولو كنت غليظ القلب لانفضوا من حولك"ا إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التى تدعو الأطراف المتحاورة إلى تدبيب وتنعيم المتبادل من لغة ومخالقة مرضية من الطرفين، توخيا للفائدة المرجوة. وأمثالنا العربية الفصيح منها والشعبي غنية فى هذا المضمار كقولنا على سبيل المثال لا الحصر " يؤخذ بالحكمة ما لا يؤخذ بالقوة" وقولنا "أرسل لبيبا ولا توصيه" وقولنا " اكبظ الفيد لشير ما بكيت" و"يمش بالشور الفخلاك يعجل" وقول معاوية الأول "لو كانت بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت إن جذبوها تركتها وإن تركوها جذبتها".
أمثلة فى غاية العمق والبراعة فى فن التعاطى والتحاور.
فأن تفاوض أنيقا حصيفا خطيبا مرنا تترك له لتنتزع منه، سلس اللغة والتعبير خير لك من أن تحاور دميما أبلها عييا متعصبا خشن اللغة والخطاب. سيما إذا كان مكبلا من مرجعيته السياسية بقوالب من المواقف الجامدة التى لا تتمفصل ولا تقبل التطوير فى خطاب ولا التحوير فى موقف دعت إكراهات وضرورات التوصل إلى مجمع عليه.
وعليه فإن المفاوض أو المحاور يجب أن يخضع لجملة من معايير حسن الاختيار وبعناية كبيرة، لا أن ننتدب لذلك مخلوقا أو مخلوقة لا يفقه شيئا فى فن التفاوض والحوار، ثم ندفع به إلى الملعب، فلا هو يحسن الحراسة ولا التهديف .
أما مربض الفرس وبيت القصيد فى هذه الرسالة فهو أنني أطالب – بأعلى صوتي وأطلب من المصوتين أن يعلنوها معي عالية وبأصوات مدوية- من كل من النظام والمعارضة أن يشتركا فى حوار وطني جامع وشامل يشترك فيه جميع الفاعلين من علماء وأئمة ومثقفين وأعضاء البرلمان بغرفتية ورجال قانون وخبراء اقتصاديين وأطباء وأساتذة ونقابيين وصحافة ومجتمع مدني ووجهاء وشيوخ ومجموعات اجتماعية وكل الشخصيات الوطنية الوازنة .
حوار من شأنه أن يقدم لنا مخرجات تضمن إصلاحا وطنيا شاملا خاصة فى المجالات الاقتصادية والثقافية والصحية والاجتماعية والخدمية والسياسية، وقد أخرتها (السياسية) لأنني أعتقد جازما أنه قطاع فيه ما لابد من أن يتفق عليه وفيه ما يمكن أن يؤجل ولو إلى حين، أما القطاعات الأخرى ، فإن إدخال إصلاحات عليها مسألة جوهرية وفوق الاستعجال، ولا تحتمل التأجيل لارتباطها بالحياة اليومية للمواطن، هذا من جهة ولأن أي إصلاحات تدخل عليها أو تحسين، لا يمكن إلا أن تكون موضع إجماع من الجميع من جهة ثانية، لأن معارضتها أو تعطيلها سيكون جناية وخيانة كبرى سيحاسب عليها مرتكبوها ويقاضون.
توصية:
حبذا لو كف الطرفان فى المعارضة والنظام عن أساليب الغمز واللمز والتراشق الإعلامي والخطابي بما هو دون اللياقة، ولو أنه سلوك معتاد بين الأنظمة والمعارضات، إلا أن خصوصياتنا الأخلاقية والثقافية – حتى الآن – تأبى ذلك، وبالتالى تجب مراعاتها وعدم المساس بها.
وفقكم الله وشكرا وإلى رسالة قادمة