ثلاثة أحداث أعادت فتح ملف تاريخ الكادحين؛ وهي: وفاة الأستاذ محمد المصطفى ولد بدر الدين رحمه الله، وهو أحد مؤسسي وقادة الكادحين، وما نشر في تأبينه من أخبار وآراء؛ وظهور طبعة جديدة من كراس "سطور حمراء" الذي وثق وعرض ألوانا نادرة من أدب الكادحين يزيد عمر بعض نصوصها على نصف قرن، وما دار حوله من نقاش وتعليق؛ وسلسلة مقالات كتبها الأستاذ بدن ولد عابدين بعنوان "من تاريخ الكادحين" وكان هو الآخر - مد الله في عمره- أحد مؤسسي وقادة تلك الحركة.
.ومساهمة مني في إعداد وتنقيح ذلك الملف، وتقريظا لبعض ما تناوله، وتنميقا وتأطيرا لبعض الأحداث بما يجعلها أبهى وأجمل وأشمل ويضعها في إطارها الثقافي والاجتماعي، وتصحيحا لبعض المفاهيم والآراء، وحرصا على تقديم الوقائع كما هي وفاء للحقيقة والتاريخ، فقد ارتأيت أن أضع هذه الهوامش بين يدي القارئ الكريم، لعل وعسى.
محمدٌ ولد إشدو
الهامش الأول: ما قبل الرفيق سميدع رحمه الله
يبدأ الأستاذ محمدٌ ولد عابدين (بدّنْ) الحلقة الأولى من حديثه الشائق عن تاريخ الكادحين بالحديث عن الرفيق سيدي محمد سميدع وكدحته. ويدخل على الخط بمساهمة نظرية شاملة حول الموضوع الأستاذ محمد ولد محمذن فال، الذي تحدث بدوره في مقال بعنوان "صدور ديوان سطور حمراء عودة إلى الذاكرة" عن سميدع كبداية للكادحين، وعن وثيقة الحكيم جورج حبش كدليل نظري لحركتهم.
ورغم أن لا جدال في ريادة الرفيق سيدي محمد سميدع ودوره البارز في تأسيس وإلهام الحركة الوطنية الديمقراطية والكادحين، فإنه من الحق والعدل أن نتذكر، ونَذْكُر للتاريخ شيئا عما قبل سميدع، وعن جذور وأسباب نشأة تلك الحركة والإطار التاريخي الذي أفرزها. وبما أنني كنت قد كتبت في مناسبات أخرى بعض المقالات المتعلقة بتلك الجذور، وكنت كذلك أول من تعرف من بين أعضاء الحركة على الرفيق سيدي محمد ولد سميدع في وادي ترون أثناء العطلة الدراسية سنة 1965 ومَن ضمه إلى هيئة تحرير "موريتانيا الفتاة" وإلى حركة القوميين العرب، فإني سألخص وأبين في هذا الهامش رؤوس أقلام عن فترة ما قبل سميدع لأهميتها، ولو تطلب ذلك مني استعمال ضمير المتكلم الذي لا يروق لي غالبا؛ ثم أعرج على تمحيص بعض ما جاء في مقال الأستاذ محمد ولد محمذن فال.
"ثورة الهوية والاستقلال
عندما أعلن استقلال موريتانيا فجر الثامن والعشرين من شهر نوفمبر سنة 1960 في انواكشوط لم يكن يوجد هنا على الإطلاق ما يدل دلالة قطعية على استقلال وطن وإقامة دولة؛ اللهم إلا إذا كان وضع حجر أساس العاصمة الذي جرى قبل ذلك بأشهر، وبضع ورشات بناء متواضعة متناثرة. وكان كل شيء بيد فرنسا، ما عدا إرادة الرعيل الأول الراسخة في جمع الشمل وإنجاز الاستقلال وبناء دولة بما تيسر؛ والتي تجلت ملامحها واضحة في مؤتمر ألاگ!
كانت حكومة موريتانيا والمصالح الجنينية التابعة لها ما تزال يومئذ جاثية في مدينة سان لويس السنغالية. وكنا عالة في كل شيء على فرنسا والسنغال، ومهددين في وجودنا من طرف المغرب الذي يعتبرنا جزءا لا يتجزأ منه، وأغلبية شعبنا الساحقة بداة رحل خارج التاريخ، والإمكانيات شبه منعدمة، لحد أنه لا يوجد في أرضنا الشاسعة كيلو متر واحد معبد؛ والعرب - إلا تونس- يجفوننا ويقاطعوننا إرضاء للمغرب!
ولما أصر الرئيس المختار - رحمه الله- على الانتقال بما لديه إلى انواكشوط وهي واد غير ذي زرع، كانت نواة الدولة التي جلب معه متفرنسة كليا وخاضعة في كثير من شؤونها لتدخلات قاطن القصر الغربي! وبالتالي فهي متناقضة تناقضا موضوعيا حادا وشبه عدائي مع المجتمع العربي الإسلامي البدوي العالم صاحب الأرض والمصلحة من جهة، ومع إرادة الحرية العاتية التي تجتاح العالم يومئذ من جهة أخرى!
أما المعارضة الموريتانية التي من سماتها التليدة بطء فهم واستيعاب المستجدات السياسية، فقد انقسمت بعيد إعلان الاستقلال - الذي شككت فيه وقاومته- إلى فريقين حاور أحدهما النظام الجديد والتحق به حارقا سفنه، والتحق الثاني بمغرب تبنى الإرهاب نهجا لتحقيق أهدافه. فأصبحنا بلا معارضة!
وفي تلك الفترة كانت صرخة الرئيس جمال عبد الناصر الداعية إلى الحرية والاشتراكية والوحدة مدوية في جميع أرجاء العالم رغم انهيار أول وحدة عربية رائدة بين مصر وسوريا، وما نتج عن ذلك من إحباط. وكان حديث محمد حسنين هيكل الأسبوعي "بصراحة" مائدة جميع المثقفين الشباب في أرجاء الوطن العربي!
تلكم كانت سمات الوضع البارزة غداة عودتي من تونس في صيف سنة 1962 تحدوني انتصارات الثورة الجزائرية التي بصمتني، وزحفُ الزعيم أحمد بن بلله ورفاقه على الجزائر العاصمة.
وكنت كثيرا ما أتمثل في حالتنا العامة المزرية بقول شيخي وصديقي الشيخ محمد سالم بن عدود رحمه الله:
كفى حزنـــا ألا نـزال يقودنــــا ** إلى الخسف داع من دعاة جهنما
وفي شيعة الدجال نمشي وحزبه ** وأسرتنا جند المسيح ابن مريمـا
فيا عجبا من كافر قاد مسلمـــــا ** ومن عربي شاقه صوت أعجما.
كان لا بد من تغيير هذا الواقع المر؛ ولكن كيف، وما العمل؟ وفي هذا تفسير البيتين التاليين اللاحقين على تلك الفترة:
كنت ممن إلى الحقوق يتوق ** لا أبارى فيـــها، وفيها أفوق
بيد أني لسوء حظ زمــــاني ** شغلتني عن الحقوق الحقوق! "
(ينظر كتاب "سفارة الأرز" الفصل الثاني، وديباجة تأبين الدكتورة السالكه بنت اسنيد)
وتفسير أيضا للبيتين المعاصرين لها وهما:
يا أيها الواقع المر الذي قسرت ** أجيالنا أن تعيش اليوم في يـده
ثق أننا سندويها مجلجلــة ** حربا عليك مساء اليوم أو غده.
يتواصل بإذن الله