لقد مر أسبوع كامل على اختفاء السجين السلفي الهارب، ولكن وعلى الرغم من ذلك فلا تزال المعلومات المتاحة عن هروب هذا السجين شحيحة، وخاصة في تفاصيلها المتعلقة بطريقة الهروب، وبالشركاء المحتملين، وبمكان الاختفاء.
ولأننا لا نملك ـ حتى الآن ـ أي معلومات رسمية، فلا بأس من تقديم بعض الفرضيات لمحاولة تفسير ما جرى،
ولإعطاء أجوبة غير شافية على أسئلة أصبح الكل يطرحها: كيف تمت عملية الفرار؟ وهل هناك من شركاء؟ وأين يختفي الآن السجين الهارب؟
دعونا نبدأ بمحاولة الإجابة على السؤال الأخير المتعلق بمكان اختفاء السجين الهارب.
بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وفي فترة كانت فيها أمريكا تكثف من بحثها لتحديد مكان اختفاء الراحل “أسامة بلادن”، في تلك الفترة تم تداول تصريح غبي للرئيس الأمريكي السابق “جورج بوش” . يقول هذا التصريح بأن الرئيس الأمريكي كان قد توصل في تلك الفترة إلى استنتاج غبي مفاده أن الراحل”أسامة بلادن” إما أن يكون في أفغانستان أو خارجها!!
هذا الاستنتاج الغبي يمكننا أن نستفيد منه هنا لنقول بأن السجين السلفي الهارب إما أن يكون في موريتانيا أو خارجها. وإذا ما حاولنا أن نقدم استنتاجا أقل غباءً من استنتاج الرئيس الأمريكي السابق، فإنه علينا أن نقول بأن السجين الهارب لم يعد الآن يوجد داخل السجن المدني، وأنه لم يصل في المقابل إلى مكان يقع تحت سيطرة القاعدة، فلو أنه وصل إلى ذلك المكان لسارع للإعلان عن ذلك، فأي انتصار يمكن أن يفتخر به السجين الهارب والقاعدة أهم من إعلان نجاح عملية الفرار؟ إنه يمكننا أن نقول بأن السجين الهارب لم يعد موجودا في السجن المدني، ولكنه أيضا لم يصل إلى أرض “آمنة”، أي الأرض التي تخضع لسيطرة القاعدة، وتبقى كل الأمكنة الفاصلة بين السجن المدني والأرض “الآمنة” هي أمكنة محتملة لاختفاء السجين الهارب، ومع أن كل هذه الأمكنة تبقى أمكنة محتملة لاختفاء السجين الهارب، إلا أننا مع ذلك سنتوقف مع مكانين دون بقية الأمكنة المحتملة للاختفاء.
أقوى الاحتمالات أن يكون السجين الهارب لا يزال مختبئا في مكان ما من العاصمة نواكشوط، وهذا لا يعني أننا نصدق ما تنشره بعض المواقع الصفراء، والتي تقول ـ ومنذ أيام ـ بأن قوات الأمن قد حددت مكان اختفاء السجين الهارب، وأن عملية القبض على هذا السجين لم تعد إلا مسألة ساعات أو دقائق. يبدو أن الساعات و الدقائق عند هذه المواقع الصفراء قد تعني أسبوعا كاملا.
صحف أخرى تحدد لنا موقعا مفترضا آخر لاختفاء السجين الهارب، فمنذ أيام وبعض الصحف السنغالية تنشر أخبارا توحي بأن السجين يوجد في مدينة “سينلوي” أو في ضواحيها، وأن هناك تنسيقا أمنيا بين عناصر من شعبة التحقيقات الجنائية في السنغال وقوات موريتانية خاصة للبحث عن السجين الهارب في تلك المنطقة، وفي هذا الإطار فقد تم إلقاء القبض على عدد من الموريتانيين بشكل مؤقت، وكان من أبرز من اعتقل بشكل مؤقت الصحفي “الشيخ ولد السالك”، والذي كان قد تم اعتقاله في المطار على أساس أنه هو السجين الهارب.
ومهما يكن من أمر، وسواء كان السجين الهارب لا يزال مختبئا في العاصمة، أو أن يكون قد وصل إلى السنغال، ففي كل الأحوال فإن كل ذلك يشكل فشلا أمنيا ذريعا، فأن يختفي هذا “الإرهابي الخطير” أسبوعا كاملا في العاصمة دون أن يتم تحديد مكانه، أو أن يتمكن من الوصول إلى السنغال دون أن يتم اعتقاله على الحدود، فإن كل ذلك سيضع مؤسساتنا الأمنية في حرج كبير.
سؤال آخر علينا أن نجيب عليه إجابة غير شافية، هذا السؤال يقول: كيف تمكن السجين السلفي من الخروج من السجن وهل لديه شركاء؟
هذا السؤال يمكن أن نجيب عليه من خلال خمس فرضيات:
الفرضية الأولى: أن تكون عملية الفرار قد تمت بموجب قرار فردي اتخذه السجين الهارب، وهذا لا يعني بأن السجين الهارب لم يتعاون خلال عملية الفرار مع جهات أخرى ( أقارب؛ أصدقاء؛ حراس؛ سجناء…)، وإنما يعني بأن القرار كان في أصله قرارا فرديا. هذا الفرضية إن صحت فإنها ستشكل صفعة قوية للجهات الأمنية، فأن يتمكن سجين “خطير” من أن يخرج بهذه السهولة من السجن الأكثر حراسة، وأن يختفي لأسبوع كامل دون أن يلقى عليه القبض، فإن ذلك ليعني بأن مؤسساتنا الأمنية ليست بخير، ولكنه يعني أيضا بأن احتمال إلقاء القبض على السجين الهارب لا يزال قائما، وذلك لأنه سيبقى من الراجح أن تكون هناك ثغرات قوية في عملية الهروب والاختفاء ما دامت العملية قد تم التخطيط لها بشكل فردي، حتى وإن حدث تعاون مع عناصر محدودة من الأمن أو من الأقارب أو من الشركاء في الفكر خلال مراحل تنفيذ هذه العملية.
الفرضية الثانية: أن تكون القاعدة هي التي خططت ونفذت عملية هروب السجين السلفي وفي هذه الحالة فإننا نكون أمام صفعة قوية توجهها لنا القاعدة، وذلك بعد أن كنا قد وجهنا لها من قبل صفعات قوية..في حالة صدق هذه الفرضية فإنه سيكون علينا أن نتذكر بأن الحرب سجال، وبأننا لم ننتصر بعدُ على الإرهاب.هذه الفرضية إن صدقت فسيعني ذلك بأن مؤسساتنا الأمنية ليست بخير، وسيعني أيضا بأن احتمالات إلقاء القبض على السجين الهارب ستكون ضعيفة، فمما لا شك فيه بأن القاعدة إن كانت هي التي خططت لهذه العملية، فلا بد أنها ستكون قد وضعت خطة متكاملة ومحكمة لكل مراحل العملية، بدءا من الخروج من السجن، وانتهاء بالوصول إلى معسكرات القاعدة في الشمال المالي.
الفرضية الثالثة : أن تكون السلطة هي من يقف وراء هذه العملية، وأن تكون العملية قد تمت في إطار صفقة سرية ما، أو أنها تمت في إطار مخطط يهدف إلى محاولة زرع عميل جديد في صفوف القاعدة، وذلك بعد أن كانت السلطة قد تكبدت في الفترة الماضية خسائر كبيرة في هذا المجال.
هذه الفرضية قد تُظهر مؤسساتنا الأمنية بأنها مؤسسات قوية، وبأنها تخطط وتبادر، ولكن هذه الفرضية تبقى ضعيفة جدا، فأن يكون السجين قد تم تهريبه في إطار صفقة سرية فإنه في هذه الحالة لابد لنا أن نحدد عوائد تلك الصفقة، ومهما كانت قيمة عوائد تلك الصفقة فإنها لن تعوض الخسارة الكبيرة التي تتمثل في أن هذه الصفقة ستظهر المؤسسة الأمنية على أنها مؤسسة مخترقة وأنها ليست على خير، فمشكلة مثل هذه الصفقات السرية تكمن في أن المؤسسة الأمنية لا تستطيع أن تعترف بأنها هي من هرب السجين، وبالتالي فإنها ستظهر أمام الرأي العام على أنها مؤسسة ضعيفة ومخترقة، وبالطبع فإنكم تدركون خطورة ذلك، خاصة في مثل هذه الفترة العصيبة التي تعيش فيها بلادنا انفلاتا أمنيا خطيرا. أما إذا كان السجين قد تم تركه يهرب في إطار اتفاق سري معه من أجل زرعه كعميل في القاعدة، فإن هذا يبقى مجرد خيال في خيال، ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه في حالة تصديق هذه الفرضية: من يضمن ولاء العميل بعد وصوله إلى القاعدة؟ وحتى وإن التزم السجين الهارب بما تعهد به فمن يضمن عدم اكتشافه من طرف القاعدة؟
الفرضية الرابعة: أن تكون هناك جهة ما من داخل النظام أو من خارجه تسعى لهدف ما، وأن تكون هذه الجهة قد أرادت بهذه العملية وبغيرها من العمليات غير الواضحة، والتي تحدث من حين لآخر، أن تظهر النظام القائم بأنه نظام ضعيف وهش.
وتبقى الفرضية الأولى والثانية هما الفرضيتان الأقوى، أما الفرضية الثالثة والرابعة فإنهما فرضيتان في غاية الضعف، ومع ذلك فلا يمكن استبعادهما عندما نحاول أن نقدم كل الفرضيات الممكنة لعملية هروب واختفاء السجين السلفي بهذه الطريقة الغريبة والمثيرة التي تابعناها خلال أيام الأسبوع الماضي.
الفرضية الخامسة: أن تتحول عملية هروب السجين السلفي واختفائه إلى لغز محير يضاف إلى ألغاز أخرى لم نستطع حتى الآن أن نفك طلاسمها. فنحن نعرف مثلا بأن هناك طائرة اختفت في مطلع التسعينيات، ولكننا لا نعرف حتى الآن كيف اختفت تلك الطائرة، ولا نعرف مصير الوالي ولا الطاقم الذي كان يوجد بتلك الطائرة. ونحن نعلم أيضا بأن الرئيس كان قد تلقى عدة رصاصات في يوم 13 أكتوبر من العام 2012، ولكننا لا نعرف حتى الآن من أطلق تلك الرصاصات. هذا قد يحدث شيء مشابه له مع السجين الهارب، وربما تتحول الأسئلة المتعلقة بطريقة هروب هذا السجين ومكان اختفائه إلى ألغاز جديدة تضاف إلى سجل أرشيف ألغازنا القديمة.
حفظ الله موريتانيا..
محمد الأمين ولد الفاضل