خلافا لما درجت عليه وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية الخاضعة لرقابة المفسدين من تعتيم وحصار على جل الأصوات الوطنية التي تجهر بالحق وتحلل الواقع وتدعو إلى الإصلاح وتشييد صرح الوطن الناهض؛ قامت قناة "الوطنية" مشكورة - عبر برنامج "ضيف وقضية"- بتسجيل سلسة أحاديث مع الأستاذ محمدٌ ولد إشدو ترمي إلى سبر غور سفر تكوين الدولة الموريتانية وجلي درر ماضيها الناصع وتحليل وتمحيص حاضرها الغني الزاخر ورسم آفاق مستقبلها المشرق الواعد.
.وقد ارتأت إدارة موقع الأستاذ محمدٌ ولد إشدو نشر هذه الأحاديث مصورة ومكتوبة منقحة على حلقات هذه بداية مكتوبها. وقد شاهدتم حتى الآن الحلقتين المصورتين الأولى والثانية، وسوف تجدون الباقي تباعا إن شاء الله؛ راجين أن يسهم هذا النشر في تقديم صورة جميلة وصادقة عن ماضي وحاضر ومستقبل هذا البلد الطيب إلى أبنائه البررة. صورة تختلف كليا عن الصورة البشعة المشوهة الصادمة التي يحاول تسريبها وترسيخها في الأذهان دعاة الإحباط والإسقاط وغلاة التفريط والإفراط العدميين، لكي لا يكون لنا ماض ولا حاضر ولا مستقبل، فنكون جسما هامدا بلا روح وبلا قيم وبلا أحلام.. وبالتالي يسهل عليهم تدميرنا.
الموقع
لحسن ولد محمد الأمين (صحفي بقناة الوطنية):تحية طيبة مشاهدينا الأعزاء مشاهدي قناة الوطنية، وأهلا وسهلا بكم في حلقة جديدة من برنامجكم الأسبوعي "ضيف وقضية".
ضيفنا في حد ذاته قضية بطبيعة الحال؛ قضية اقتصادية، قضية سياسية، قضية أدبية، قضية قانونية أيضا. ضيفنا في هذه الحلقة الأستاذ المحامي والأديب والسياسي الأستاذ محمدٌ ولد إشدو.
أهلا بك يا أستاذ ضيفا على برنامج "ضيف وقضية".
ذ. إشدو:أهلا بك وبالمستمعين الكرام والمشاهدين.
لحسن: شكرا.. سنتطرق مع الضيف - في سلسلة حلقات بحول الله تعالى- إلى عدة ملفات مختلفة، منها ما هو سياسي وما هو اقتصادي وما هو قانوني وما هو أدبي أيضا، بإذن الله تعالى، وستمتد هذه الحلقات على مدى ثلاث حلقات بإذن الله تعالى، سنبدؤها بالتاريخ السياسي الموريتاني الذي لم يكن ضيفنا شاهدا عليه فقط؛ بل تجاوز ذلك إلى أن كان فاعلا في هذا التاريخ السياسي الوطني. وسنتطرق معه إلى عدة محاور ومنعطفات من هذا التاريخ، استطاعت أن تلعب دورا في تشكيل الخريطة السياسية للبلد.
كما سنتطرق في بقية الحلقات إلى ملفات أخرى تتعلق بعديد المواضيع؛ منها ما هو حقوقي ومنها ما هو أدبي ومنها ما هو سياسي، ومنها ما هو آني أيضا بالنسبة للوضعية العامة للبلد.
إذن، أستاذ محمدٌ هذه الحلقة سنتناول فيها ونفتح الملف على مصراعيه بخصوص التاريخ السياسي الموريتاني. ولا يمكن أن نبدأ هذا الملف دون أن نقف عند المحطة التي كانت رئيسية بالنسبة للتاريخ السياسي الموريتاني وبالنسبة للوجود الموريتاني في حد ذاته، ألا وهي الاستقلال الموريتاني الذي تُحُصِّل عليه في 28 نوفمبر 1960 والذي نحن الآن أيضا على أعتاب الاحتفال به - بإذن الله تعالى- في الثامن والعشرين من نوفمبر القادم.
فهذه المناسبة التي أخرجت موريتانيا إلى الوجود إن صح التعبير، اكتنفت مرحلتها العديد من التجاذبات والتداعيات التي ساهمت في صناعة الاستقلال، وحصوله، وإن كان هناك خلاف تاريخي – ربما- في حقيقة هذا الاستقلال؛ حتى إن بعض الباحثين ذهب إلى أنه لم يكن استقلالا بفعل القوة وبفعل المقاومة بقدر ما كان استقلالا موهوبا حصل بفضل المفاوضات وبفعل الجولات السياسية المتكررة. نريد أن نتحدث بداية عن استقلال موريتانيا.
إرهاصات الاستقلال
ذ. إشدو:بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أود أن أبدأ البداية التالية: أنا أعتقد أن لهذا البلد ماضيا مجيدا، وهذا الماضي المجيد عرف منعطفات كثيرة جدا ومهمة جدا، وينبغي أن نحاول أن يكون لنا بها إلمام كبير، لأن من ليس لديه علم بماضيه لن يكون لديه الكثير من أخبار حاضره، ولا أدري أيضا مدى مساهمته الفعالة في صنع المستقبل.
إن لهذا البلد ماضيا مجيدا جدا كما سبق أن قلتَ. وشكلت ملحمة المرابطين جزءا مما هو معروف ولن نتطرق إليه الآن. وشكلت ملحمة إقامة حضارة عالمة في بلد بدوي معلما من معالمه، وشكل بناء المدن القديمة معلما من معالمه، وشكلت حركة ناصر الدين التي حاربت الاستعمار الفرنسي في موريتانيا وفي غرب إفريقيا، وأهم شيء أنها في منتصف القرن السابع عشر حاربت الرق! فوحدهم "البيظان" في هذه الفترة من الزمن هم الذين كانوا ضد تجارة الرقيق، ولست أنا من قال هذا؛ بل قاله المؤرخون. قاله شامبونو، وقاله بوبكّر باري في كتابه الجميل "إمارة والو". شكلت تلك الحركة معلما بارزا آخر. وكذلك الماميون.
لحسن:لم يكونوا فاعلين في تجارة الرق؟
ذ. إشدو: كانوا يحاربونها! وماذا يقول ناصر الدين؟ يقول: إن الله تعالى قيض ولاةالأمر للرعيةولم يقيضالرعية لولاةالأمر، وعلى ولي الأمر أن يحمي الرعية، وأن لا يستغلها، وأن لا يستعبدها، وأن لا يقتلها.
هذا كلام ناصر الدين كما نقله عنه شامبونو وكما نقله ببكر باري. حارب الاسترقاق تماما انطلاقا من الإسلام الحقيقي.. حارب تجارة الرقيق وغيرها من أنواع الفساد والبدع المعروفة آن ذاك.
من معالم الماضي المجيد أيضا قيام إمارات فروسية يضرب المثل بجلها في العدل كـ"عافية أحمل امحمد" وكالمثل القائل إن للعدالة يومين: يوم القيامة ويوم ينظر المرء إلى قمم خيم أولاد أحمد من دمان.
يضرب المثل بهذه الإمارات التي قامت في تلك الأيام، والتي تشكل معلما من معالم هذا الماضي في العدالة وفي الشجاعة والجود والبأس.
ولا شك أن من معالم هذا الماضي أيضا مقاومة الاستعمار. ومن معالم هذا الماضي المعلمة الأساسية التي أريد أن أتحدث عنها اليوم، التي هي الاستقلال الوطني.
من لا يجد نفسه في هذا الماضي.. من لا يتصل بهذا الماضي.. من لا يحاول أن يضيف لبنة إلى هذا الماضي.. أعتقد – كما قلت- أنه ليس له حاضر ولا مستقبل، وليس له أيضا روح ولا عقل.
وفيما يتعلق بملحمة الاستقلال أعتقد أن لها إرهاصات سبقتها، تمثلت في حركة الزعيم أحمدُ ولد حرمه، ولكن بدايتها الحقيقية كانت في 20 من مايو 1957. ففي هذا التاريخ رشح الحزب التقدمي الموريتاني الأستاذ المختار ولد داداه رحمه الله، الذي ينبغي أن يكون كل موريتاني اليوم يحيي ذكرى وفاته أمس (14 أكتوبر) تقديرا لما قام به من أجل هذا الكيان ومن أجل بناء هذا الوطن.
الرئيس المختار ولد داداه رشحه حزبه على رأس الحكومة المزمع إنشاؤها آن ذاك بمقتضى القانون الإطاري، وستكون بداية الاستقلال الداخلي. وكان لحزبه 23 نائبا من 24 نائبا تشكل آن ذاك الجمعية الإقليمية التي تحولت بعد ذلك إلى جمعية تأسيسية.
ماذا يخوله هذا الترشيح؟ يخوله أن يكون نائب رئيس الحكومة الإقليمية.
عندما انتخب هذا الرجل نائبا لرئيس الحكومة الإقليمية كان يختلف عن بقية زملائه جميعا، لماذا؟ لأنه جمع بين الأصالة والحداثة! هذا الرجل تعلم القرآن، رعى الغنم، ورد الآبار، سافر في القوافل، "ونگل". ألم بكل ما يسمى الثقافة التقليدية الأصيلة للمجتمع دون أن يفوته منها أي شيء، ومن مارس هذه المذكورات فقد مارس الناس وخالطهم.
ثم بعد ذلك التحق بالمدارس العصرية بعدما صار لديه هذا الرصيد، ونهل من المعارف العصرية لدرجة وصوله إلى المرحلة الجامعية حيث نال الليصانص فأصبح محاميا.
وقبيل هذه الفترة كان قد حصل على شهادة ابتدائية تخوله أن يكون ترجمانا، فعمل في آدرار وبئر أم اگرين، وتنقل داخل البلاد، وذهب إلى السنغال بطبيعة الحال حيث كانت الحكومة في تلك الأيام.
الوحدة الوطنية
كان هذا الرجل الفذ يدرك من خلال هذا التكوين الذي يميزه عن غيره ويجمع بين الأصالة والحداثة، أن بناء دولة؛ وخاصة دولة تبنى من العدم، لأن مكث الفرنسيين هنا كان قصيرا ولله الحمد، ولم يتركوا أي شيء. وموريتانيا كانت إمارات مستقل بعضها عن بعض ومتناحرة في بعض الأحيان، والموريتانيون لم يعرفوا الإدارة المركزية إلا فترة الاستعمار أو عند ما قامت الدولة ابتداء من 20 مايو 1957 وبدأت إرهاصاتها، كان يدرك أن ذلك يتطلب جهدا كبيرا وجدا عظيما.
ماذا صنع المختار ولد داداه؟ لقد أعلن مجموعة من السياسات بادئ ذي بدء، وأولى تلك السياسات هي الحفاظ على الوحدة الوطنية، وإنشاء الوحدة الوطنية. والوحدة الوطنية في مفهومه تتجسد في أمرين:
- الوحدة بين مكونات موريتانيا وعدم التفريط فيها، وشبهها في كتابه ببياض العين وسوادها اللذين لا تبصر دونهما معا.
- وحدة القوى السياسية الموريتانية. وهنا تشبث بأمرين غريبين؛ وخصوصا على حزبه، وعزلاه عن حزبه لولا مساعدة بعض زملائه؛ وعلى رأسهم السيد سيد المختار انجاي رئيس الجمعية الوطنية فيما بعد، رحمه الله، لأنه هو الباني الثاني لموريتانيا، ونادرا ما يعطيه الناس حقه.
الأمران هما:
أولا تشكيل حكومة ائتلافية بين حزبه وبين حزب الوئام، حزب أحمدُ ولد حرمه رحمه الله، وكان هذا صعبا في تلك الفترة لأن أحمدُ كان قد ذهب إلى المغرب ودعا إلى مغربية موريتانيا، ولكن المختار - رحمه الله- تشبث بأن ذلك الحزب السياسي ينبغي العمل على إدخاله في حكومة ائتلافية من أجل تخفيف العبء المرتقب حمله، والذي هو الاستقلال وتكوين دولة موريتانية، وفعلا نال أغلبية في حزبه لهذا وأنشأ حكومة ائتلاف وطني بين حزبه وبين حزب الوئام، دخلها من جهة الوئام المرحوم الدي ولد سيدي بابه وشيخنا وأستاذنا محمد المختار ولد اباه (أطال الله بقاءه).
الأمر الغريب الثاني الذي تشبث به الرئيس المختار هو أن حركة الشباب كانت محاربة من طرف الإدارة الفرنسية، ومن بينها مطلوبون لديها؛ فعمد إلى المطلوبين فعين منهم مديرين في إدارته، وأحدهم (الأستاذ أحمد بزيد ولد أحمد مسكه رحمه الله) عينه مدير ديوانه.
ومن ثم اتجه إلى الخطوة الكبرى في الوحدة الوطنية وفي بناء الدولة؛ ألا وهي مؤتمر ألاگ، المؤتمر التأسيسي المنعقد يوم 2 من مايو 1958 والذي كان تجمعا كبيرا جدا للموريتانيين الذين جاؤوه من كل صوب وحدب.