بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين ، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
تاريخ موريتانيا الإيجابي يتواصل بأمر من شيخنا الشيخ علي الرضا بن محمد ناجي رئيس المنتدى العالمي لنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم حفظه الله ورعاه، وسنترجم اليوم إن شاء الله للشيخ سيدي المختار الكنتي رحمه الله تعالى .
الشيخ سيدي المختار الكنتي
هو شيخ الشيوخ وقطب ذوي الرسوخ الشيخ سيدي المختار بن أحمد بن أبي بكر بن سيدي محمد بن حبيب الله بن الوافي بن الشيخ سيدي عمر الشيخ بن الشيخ سيدي أحمد البكاي ــ الولي الشهير صاحب القصة المشهورة في طرد السباع من ولاته ــ بن القطب الكبير الشيخ سيدي محمد الكنتي ، من نسل عقبة ـ المستجاب ـ بن نافع الفهري القرشي فاتح إفريقية والمغرب الأقصى وبلاد التكرور، وأمه لاله امباركه بنت سيدي بادي، وكانت مثلا سائرا في الحلم والعفاف والصيانة والديانة والكرم والسخاوة كما ذكر ابنها الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيدي المختار الكنتي في كتابه "الطرائف والتلائد من كرامات الشيخين الوالدة والوالد"، هذا الكتاب الذي يعتبر أهم مرجع عن حياة الشيخ سيدي المختار، ومنه سقت الكثير مما كتب ههنا.
ولد الشيخ سيد المختار عند كثيب أوغال بأروان شمال غربي ماليسنة 1142، تربى في كفالة أخيه لأبيه سيدي محمد، فقد توفيت والدته وهو في الرابعة من عمره، وتوفي والده وهو في العاشرة من عمره، وكان يؤتى به وهو صغير إلى جده لأمه السيد عبد القادر الملقب بادي وهو ابن سنتين أو ثلاث، فيضع يده على رأسه ويقول: ما ذا من العجب بهذا الرأس، يرددها مرارا برسم غلبة الحال، ثم يقول: السعيد كل السعيد من أدرك أيام هذا ولا أظنني أدركها، فمن أدركها منكم فليمسك بغرزه فلعمري لهو الإكسير الأكبر، والكبريت الأحمر.
اشتهر الشيخ سيدي المختار الكنتي في هذه الربوع وغيرها بالبراعة في العلم والصلاح والفضل وكثرة التآليف المفيدة النافعة، والتربية الحسنة، فلقبه الناس بشيخ الشيوخ وتاج الأجلة والبحر الخضم وغير ذلك من الألقاب التي حلوه بها في أشعارهم وكتبهم، فمما ورد مثلا في ترجمته في "فتح الشكور في معرفة علماء التكرور" للطالب عبد الله بن أبي بكر الصديق البرتلي الولاتي: "ذو البركات الشهيرات، و"شيخ الأشياخ" السادات". وقال الشيخ سيديا بن الهيبه من قصيدة يرثيه بها:
"شيخ المشائخ" نبراس النبارس في :: ليل الجهالة للمستبصرالساري
من صار من فقده نحر العلى عطلا :: من بعد زهوته بفرد تقصار
أضحى الزمان وفي إنسان مقلته :: وهي واحدة تدميم عوار
وأصبح المجد في أركانه وهن :: على شفا جرف هار فمنهار
غداة ما صدم الخطب الملم به :: فجرع الكل طعم الصبر والقار
ويتم الدين فانهلت بوادر من :: يلي كفالته من كل صبار
فقلت إذ ذاك والدهياء تجرضني :: فأتقيها بسومي كتم أسرار
فيم البكاء على من لا يغيبه :: عنك احتجاب ولا توديع أفكار
ويقول الشاعر سيد عبد الله بن أحمد دامْ يذكر سفر الشيخ سيدي للدراسة على الشيخ سيدي المختار:
لما تغلغل في علم الرواية من :: صافيه أعمل في نيل العلى نجبه
شد الرحال على عتق الركاب إلى :: تاج الأجلة من ساداتنا النخبه
فنال ما نال إذ حط الرحال وما :: أدراك ما نال يا واها لها رتبه.
ويقول الشيخ محمدو بن حنبل في نفس الغرض السابق:
لما رأى أن المعالي صعبة :: لا تستقيد إلى الضعيف الواني
بَسل على من لا يجشم نفسه :: جمر الغضا وعوالي المران
نصب الرحال على رواحل همة :: ما شيب دائب سيرها بتوان
عيس أحن إلى الهواجر والسرى :: منها إلى الأعطان والأوطان
يحدو بها حادي الرجاء فترتمي :: نصا يدق مناكب الصوان
ما زال يقحمها المفاوز ماضيا :: كالعضب يوم تصاول الأقران
حتى أناخ إلى خضم خضرم :: رحب الشرائع واسع الأعطان
طاهي القوارب قاذف أرجاؤه :: بالدر والياقوت والمرجان
فسقاه كأس المالكية مزجت :: بالقادرية سره المصطان
فأتيتَ إذ جاريتَ في ميدانها :: حلباتها مستولي الميدان
متوددا في مثل هيبة ضيغم :: متواضعا في زي ذي سلطان.
وقال العلامة النابغة الغلاوي:
والشيخ بالإطلاق للمختار :: أعني ابن أحمد على المختار
وغيره لابد أن يقيدا :: باسم به سمي حين ولدا.
كانت مضارب أحياء البادية بأزواد مرابع الصبا للشيخ سيدي المختار الكنتي بها نشأ وفيها تعلم القرآن بالكتاب، وحين بلغ ثلاث عشرة سنة من عمره حل بقرية "المبروك" مع ذويه، ولم يمكث مليا حتى وقعت الواقعة الشهيرة التي كان لها أثرها المشهود بعد ذلك في حياة الشيخ سيدي المختار، وذلك أنه كان يوما مع الصيبان يفتلون الحبال فتناول حبلا من يد نوبي لا يفهم كلاما ولا يحسن جوابا فأفصح النوبي وقال: ما لهذا خلقت، ولا بهذا أمرت، قال الشيخ: فكأنما أرسلها في نفسي سهما فقلت له: ولما ذا خلقت وبما ذا أمرت؟ قال: خلقت لمعرفة ربك وعبادته، وأمرت بتعليم العلم وطلبه، قالالشيخ: فألقى الله في نفسي العزيمة على الرحلة في طلب العلم والتغرب في تحصيله، والتجرد للإرتياض وتهذيب النفس، فكنت أعمل الفكرة دائما في وجه العمل في الخروج والجهة التي أتوجه إليها، مع فقد المساعد على جمائل المقاصد، فهيأ الله أسباب الخروج إثر ذلك بمدة يسيرة، وذلك أني خرجت راعيا فلما وافيت المربع صغرت إلي نفسي، وتجردت من عزمة الخروج في الحال، والتوجه إلى جهة المشرق، فامتطيت جملا كنت أرعى عليه وقلت: اللهم رد الإبل بحالها على أربابها واصحبني بعينك وعنايتك، ثم سرت مستقبلا الشرق فألجأني الليل إلى قوم يفتلون الحلفاء فكأنهم استثقلوني فقلت لهم: لا تهمنكم مأونتي فإني ضيف على ربي وسيضيفني الآن.. قال فخرج رجل من القوم ناحية بقرب منا فإذا هو بغزال مكتوف بشجرة حلفاء فقبض عليه وأتى به، فقال القوم: هذه ضيافة رب الصبي للصبي التي وعدكم بها، قال فلما أصبحت ارتحلت ببعيري، فمررت بقرية المامون فسألت عمن يشار إليه فيها بولاية، فدللت على سيدي أحمد بن سيدي عبد الله بن المختار وقالوا يقال فيه مجذوب أومجنون، فلما دخلت عليه إذا بلحام متجند سبولةفنبت عيني عنه، فالتفت إلي وقال: أما ما ترى من هذه السبولة فإني أطرد بها الجن، وأما أنت فاذهب لوجهتك فيدك في الوطاب إن لم تخرج زبدا أخرجت لبنا..، وكان مما يشغلني رعاية البعير الذي خرجت عليه فعمدت إلى البعير، وشددت رحله عليه ثم أثرته، فقلت: يا رب هذا البعير قد شغلني عنك فاردده برحله إلى أهله، ثم خليت عنه فورد البعير برحله على إبل أهله بمنهل المبروك.
قصد الشيخ سيدي المختار في رحلته تلك بعض قبائل الطوارق من أهل العلم مثل "كل السوق" الذين يقول في شأنهم من قصيدة له:
جزى الله أهل السوق عنا بخيره :: فما حسدوا فضلا وما نطقوا هجرا
فإنهم ذاقوا عسيلة علمهم :: ففازوا بقصب السبق واستحدثوا فخرا
ورثتم علوم السابقين ولم تكن :: بمحدثة يزري بها الوهم معرورى
وكان من مشائخه في تلك المرحلة الشيخ أح الكلحمي وغيره، ثم سافر الشيخ إلى تنبكتو فقضى بها بعض الوقت في مطالعة الكتببمكتباتها، ومنها غادر إلى شيخه سيدي اعل ولد النجيب الشريف التكروري فألقى عصا التسيار واستقر به النوى عنده، بدت على الشيخ سيدي المختار في بداية أمره مخائل النجابة وعلامات السيادة والتفوق على الأقران، يقول مؤرخ موريتانيا الشاعر المختار بن حامد في كتابه حياة موريتانيا: "وقد عرف عنه النبوغ عند مطلع حياته الدراسية، حتى كان يتلقى يوميا سبعة دروس من فنون مختلفة، فيحفظها كلها بالإضافة إلى ما يستوعبه من دروس زملائه الطلاب الآخرين، أخذ الشيخ سيدي المختار العلوم الشرعية عن مشائخ عدة مثل الشيخ محمد احمد اليلتماتيجي الذي سمع عليه مختصر خليل بن إسحق، تحفة الحكام لابن عاصم، والشيخ اند عبد الله الذي سمع عليه: ورقات إمام الحرمين وجمع الجوامع لابن السبكي والكافية لابن الحاجب، وتنقيح الفصول، والقواعد للمنجور، غير أنه استقر عند الشيخ سيدي عالي بن النجيب بن محمد بن شعيب الشريف التكروري المتوفى في حدود السبعين بعد المائة والألف فكان له الدور الأساسي في تكوين شخصيته العلمية والروحية، وقد صحبه أربع سنوات متوالية لم يزر خلالها أهله، وسمع عليه من رواياته الكثير من التفسير والحديث والنحو والبلاغة...، على أن الجانب الأهم من علاقة الشيخ سيد المختار بالشيخ سيد عالي هو الجانب الروحي فقد أخذ عنه الطريقة القادرية التي قامت عليها شهرته وارتبطت فيما بعد باسمه في مناطق كثيرة في غرب وشمال إفريقيا وخاصة في موريتانيا التي انتشرت عنه فيها، وكان الجد الرابع للشيخ سيد المختار سيد اعمر الشيخ قد صحب الشيخ سيد محمد بن عبد الكريم المغيلي وحج معه فأخذ عنه الطريقة القادرية وتسلسلت بعد في بنيه وأحفاده فمنه أخذها ابنه الشيخ سيد أحمد الفيرم {ت 995 هـ} وعن هذا ابنه الشيخ سيد محمد الركاد {ت 994 هـ}، وعنه ابنه الشيخ سيد أحمد {ت 1063 هـ}، وعنه ابنه الشيخ سيد اعلي {ت 1119 هـ}، وعنه ابن أخيه الشيخ سيد احمد الخليفة ابن الشيخ سيد اعمر{ت 1092 هـ}، وعنه أخوه الشيخ سيدي ألمين {ذو النقاب} {ت 1116 هـ}، وعن هذا أخذها الشيخ سيدي عالي بن النجيب فكان الوحيد في هذا السند الذي لم يكن من أحفاد سيد اعمر الشيخ فكأن الشيخ سيد المختار حين أخذ عنه القادرية إنما أعادها مرة أخرى إلى كنته".
أسس الشيخ سيدي المختار في أزواد زاويته العلمية والصوفية ذاتالإشعاع المعرفي المعروف في المنطقة كلها، يقول ابنه وخليفته الشيخ سيدي محمد يذكر ذلك: "فهو الذي أحيا رسوم الطريقة بعد العفاء، وبعث رسم الحقائق بعد طول الإماتة والثواء، فأعلم المجاهل، وضم المناهل، وعرف ورسم، وبين وقسم، وأورد وأصدر، وأرقى وصدر، وألف وصنف، ونوه وشنف"، وكان ذلك بعد تصدره في العلم والسلوك على يد الشيخ سيدي عالي بن النجيب المذكور وهو عالم سني وشيخ سني، يقول عنه الشيخ سيدي المختار متحدثا عن دراسته عليه : "ثم قدمت على الشيخ المربي سيدي علي بن النجيب، وكان عارفا بالله، ناسكا متعبدا عالما متفننا صاحب أحوال سَنية، وأعمال زكية سُنية، فصحبته وأخذت عنه الأوراد القادرية، وعملت في الرياضة، فأقمت سنة والشيطان ينازعني من داخلي، ثم أقمت سنة ينازعني من عن شمالي، ثم أقمت سنة ينازعني من عن يميني، ثم أقمت السنة الرابعة يخاطبني من بين يدي، فلما مضت تلك السنة تنحى عني فكان لا يخاطبني إلا من بعد، قال ولم أكتحل بغمضمدة تلك السنين ولم أضع جنبي إلى الأرض ولم أضحك بل كنت كلما وقع بصري على نائم اعتقدته ميتا، أو على ضاحك اعتقدته مجنونا"،
قال: وصحبت الشيخ في سفرة فبتنا ليلة بالبيداء، فاعتزلت ناحية أصلي وردي فإذا أنا بطائر عظيم أخضر اللون يرفرف بجانبي يقول: أنت أفضل من هاهنا، قال فلهوت عنه ورأيته شيطانا يتخيل لي، فلما صلينا الصبح التفت إلي الشيخ رضي الله عنه متبسما وقال: ما رأيت البارحة؟ قلت: لم أر ما يقص، قال فذلك، قلت خيالات لا ينبغي الإلتفات إليها، قال ولو يكون خيالا، قال رأيت طائرا عظيما يرفرف ويقول: أنت أفضل من هنا، قال ليس ذلك بخيال وإنما هو ملك وقد صدق أنت أفضل من هاهنا.
قال: وكنت زاهدا في علوم اللسان أراها حجابا دون ما أنا بصدده، ولا أرى لها كبير فائدة، وكان الشيخ يشير علي فيها، فبينما أنا ذات يوم أفسر عليه رسالة ابن أبي زيد، وذلك بعد قراءتي المختصرات الفقهية كخليل وجامع الأمهات لابن الحاجب وغيرهما، وقال لي الخضر رضي الله عنه فيها: إن بركة العلم إنما تحصل بقراءتها، فكنت أفسرها، فقلت: "وكره مالك بالبناء للمجهول"، فضحك الشيخ وقال: "صيرته قطا". فعزمت آنذاك على قراءته.. فلما افتتحت الخلاصة كان درسي منها أربعين بيتا بطررها وشواهدها، فلم أنشب أن فقت جميع من هناك من متعاطي النحو، وبرعت في الفن، ثم اشتغلت بفنون البيان، واتخذت التعليم خلوة للرياضة فكنت لا آوي إلى أحد ولا أخالطه.
وقد تواتر عند العلماء والمؤلفين في هذه البلاد وغيرها من البلدانوصف الشيخ سيدي المختار الكنتي بالولاية لله تعالى وأنه ذو كراماتظاهرة وأحوال باهرة، ففي فتح الشكور في وصفه: "الولي الصالح، ذو البركات الشهيرات، وشيخ الأشياخ السادات، من ظهرت بركاته شرقا وغربا، ومناقبه في الناس عجما وعربا، ساقي المريد، وعمدة أهل التوحيد، شيخ المحققين، ومربي السالكين، أبو المواهب السنية، صاحب الأخلاق المرضية، ذو الكرامات الظاهرة، السيد الأسنىوالذخيرة الحسنى، الشيخ سيدي المختار بن أحمد بن أبي بكر الكنتي ثم الوافي رحمهم الله تعالى. كان رحمه الله تعالى وليا عابدا زاهدا، يأتيه المريدون من كل فج ومكان..".
ونقل القاضي العلامة الشريف محمد ابن عابدين في كتابه "لطائف التعريف بمناقب الإمام سيدي محمد الشريف" عن العلامة بدي بن القاضي المجلسي ناقلا عن الشريف محمد الامين بن عابدين ــ جد شيخنا الشيخ علي الرضا لأمه ــ أن سيدي محمد الشريف قال إن تلامذة الشيخ سيدي المختار الكنتي في عالم الغيب أكثر منهم في ظهر أزواد.
ويؤثر عن العلامة سيدي عبد الله ابن الحاج إبراهيم أنه كان لا يمر بذكر الشيخ سيدي المختار إلا قال: ولي الله.
وترجم له الشيخ يوسف النبهاني في كتابه جامع كرامات الأولياءمعددا بعض كراماته فقال: "الشيخ المختار بن أحمد بن أبي بكر الكنتي القادري من ذرية عقبة بن نافع الفهري فاتح بلاد المغرب.. ولد سنة ١١٤٢، ووفاته سنة ١٢٢٦، هو من أشهر أولياء المغرب وأعظمهم قدرا وأجلهم معرفة، ومن كراماته: أن خليفته الشيخ أحمد سيري قال: كنت مرة في زاوية الشيخ أتأمل في بعض من تركته في بلادي من أقاربي وأحبابي فإذا بالشيخ أمسكني من رأسي فوجدت نفسي في بلادي، وكان بيني وبينها نحو أربعين مرحلة، ثم بعد استيفاء غرضي وجدت نفسي في الزاوية، حدثني بهذه الكرامة سيدي العلامة الشريف الشيخ السيد محمد عبد الحي الكتاني الفاسي عند مروره في بيروت راجعا من الحج، وقال: حدثني بهاالشيخ شعيب بن الجلالي الدغوغي عن شيخه الشيخ أحمد سيري المذكور الذي وقعت معه هذه الكرامة: إلى أن يقول: قال سيدي الشيخ عبد الحي: والطريقة القادرية من أشهر الطرق في المغرب كما أن صاحبها هو من أشهر أولياء المغرب والسودان وأكبرهم رضي الله عنهم..".
وللشيخ سيديا قصيدة في ذكر كرامات شيخه الشيخ سيدي المختار الكنتي مطلعها:
أتحف الله نخبة الأخيار :: سادتي آل سيدي المختار
من كمال الرضا ومنتخب البر وألطافه وحسن الجوار
ومن الزيد والنعيم بما لم :: يوتَ بر من سائر الأبرار.
وقال يصف تربية الشيخ سيدي المختار من قصيدة له حسنة:
وكنت تحلي بعد تخلية ولا == تقوم لأدنى مبتغاك هنات..
همام هموم الدهر بعض همومه == وسيرته منها السراة سراة
مواثيق رب العز عز وفى بها == وميثاقه منه الثقات ثقات
عزيز بإعزاز العزيز وغالب == بتغليبه والحظ منه ممات..
إذا ما ثنى هذا إلينا عنانه == وحُم لنا من نحوه لفتات
حظينا بما نرجو من الحظ بعدما == أقيلت لنا من ربنا عثرات
وحاقت بحزب الماكرين مكوره == وعيضت من السوءى لنا حسنات
وفاض علينا بالرواء غطمطم == فَيوض بها الأمواج ملتطمات
أمد من البحر اللدني مدة == على أمة الهادي لها دفقات
على قدره الوافي المنيف وآله == وأصحابه قبل السلام صلاة.
وقد تبوأ الشيخ سيدي المختار المكانة العليا في العلوم الشرعية حتى اعتبر من المجددين، يقول الشيخ محمد المامي في "رد الطرد": "أفعندك أن الشيخ المختار الكنتي وابنه الخليفة وأحمد بن العاقل والأمير الصنعاني ما بلغوا درجة الاجتهاد وإن نفوه عن أنفسهم"، وقال في الدلفينية:
وقطبها شيخنا الوافيُّ ذاك عزا == لعدة مالكيات أماكين.
وقال الشيخ هارون بن الشيخ سيديا في كتاب الأخبار: "كان الشيخ سيدي المختار المذكور في غاية العلم وكان هو المجدد في القرن الثاني عشر كما يشهد له افتتاحه لكتابه هداية الطلاب بقوله: "الحمد لله الذي خص هذه الأمة المحمدية بأن جعل لها في كل قرن وارثا يجدد لها دينها يفيض عليه العلوم من لدنه ليحقق تمكينها"، إلى آخره، وكان يقول: "المجدد من إذا فرض اندراس سائر علوم الملة وأحرقت الكتب المدونة فيها ثم رجع عليه في ذلك جدد تلك العلوم ودون فيها أمثال تلك الكتب وأرجو أن أكون ذلك الرجل"، قال ابنه الشيخ سيدي محمد في "الطرائف والتلائد" بعد أن نقل كلام والده المتقدم ما لفظه: "وأنا أشهد أنه كذلك وفوق ذلك أعاد الله تعالى علينا من بركاته".
وقال عنه محمد بن محمد مخلوف في "شجرة النور الزكية في طبقات المالكية": "كان من أعلام العلماء، والأئمة الفضلاء، وأحد الأساتذة المشهورين، والجهابذة المعروفين..".
ومع ما أسلفنا من تمكنه من ناصية العلوم، وتملكه لثاقب الفهوم، فقد كان رحمه الله ورعا في الإفتاء والإقراء لا يفتي ولا يقرئ غالبا إلا والتفسير أو الشرح في يده يتصفحه ــ كما في الطرائف والتلائدــ فإذا سئل عما لا يستثبته قال لا أعلم أو أراجع الكتب، وكان إذا أشكل عليه شيء اختلى بنفسه، فيأتيه رجلان كأحسن ما يمكن رؤيته من الرجال صورة وسمتا فيفسران له ويقرآنه، فإذا رجع إلى الشيخ قال له امل علي ما فسر لك، فيمليه عليه لا يغفل منه حرفا.
ظل الشيخ سيدي المختار داعيا إلى الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، يأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويعلمهم دينهم، ويصلح بينهم، فذاع في البدو والحضر صيته وشاع فيهم خبره وأذعنوا لأمره، وراسله الملوك والأمراء.
وعلى يد الشيخ سيدي المختار تصدر الجم الغفير من العلماء وشيوخالتربية والسلوك، من أمثال: الشيخ سيدي بن المختار بن الهيبَالأبييري، والشيخ القاضي بن الحاج أتفغ الإديجبي وأخيه الشيخ المصطفى، والشيخ أحمدو بن اعويس، والشيخ بن امني المجلسيالزينبي، والشيخ باب يحيى بن محمود بن الشيخ عمر لبدوكلي، والشيخ المختار السباعي اليدموسي، والشيخ المصطف بن العربي الإيبيري، والشيخ محمد الامين بن عبد الوهاب الفلالي، وسيدي المختار بن أحمد بن محمد الغلاوي التواتي، والمختار بابه بن محمذن بن بوحبيني التندغي.
وفي الوسيط عن الشيخ سيدي الكبير أنه قال يعني الشيخ سيدي المختار: "جئته وقد انتهيت من تحصيل العلوم فردني مبتدئا"، وقال في الوسيط أيضا عند ذكر الشيخ سيدي: "وله قصيدة بديعة، يمدح بها وليَّ الله الشيخ المختار الكنتى، وتستخرج منها ثلاث قصائد، لكل منها بحر، أعني أنها كلها في بحر الكامل، ثم تقرأ أشطارها الأول، فتكون قافية من بحر المديد، ثم تستخرج من أوائل أشطارها الثواني، قافية من بحر البسيط، وليس من حفظي إلا مطلعها وهو:
طلعتْ ببُرجِكَ للبريَّةِ أسْعُدُ ... أيَّامَ جاد بك الزّمانُ الأجْود".
وفي كتاب الأخبار أنه يمدح بها الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيدي المختار.
ألف الشيخ سيدي المختار الكنتي الكثير من المؤلفات النافعة المشهورة في مختلف الفنون، قال عنها الشيخ أحمد بن الأمين العلوي في الوسيط:" ومن نظر في كتبه، تبين له فضله، سواء كانت في الحقائق أو غيرها"، وقال عنها صاحب فتح الشكور: "وله تآليفكثيرة، منها تفسير البسملة في نحو كراسة، وتفسير الفاتحة في جزء أتى فيه بالعجب العجاب، بحيث يمكث السبعة أيام أو أكثر يكتب على آية واحدة، وبلوغ الوسع على الآيات التسع في جزء، وهي تسع آيات سأله عنها بعض علماء السودان كالممتحن له، فأجابه عنها أحسن ما ينبغي .. وكان رحمه الله تعالى شاعرا مفلقا وشعره كثير جدا في سائر ضروب الشعر، وقد راسله المرتضى من مصر ومنحه، وبالله التوفيق".
ومن مؤلفات الشيخ سيدي المختار كذلك: هداية الطلاب وشرحه فتح الوهاب، وفقه الأعيان وحقائق القرآن، والرشاد في الفقه، والمنة في اعتقاد أهل السنة، والأجوبة المهمة، والبرد الموشى في قطع المطامع والرشى، وزوال الإلباس في طرد الشيطان الخناس، ونفح الطيب في الصلاة على النبي الحبيب، والروض الخصيب في شرح نفح الطيب، و"جذوة نورانية تبين للسالك ما يعرض له مما هو رباني وشيطاني"، وجذوة الأنوار في الذب عن مناقب أولياء الله الأخيار، وفتح الودود في شرح تحفة المودود على المقصور والممدود، ولطائف القدسي في فضائل آية الكرسي، وفاتحوا إفريقيا قبائلها وملوكها، والألباب في الأنساب، وفوائد نورانية وفرائد رحمانية (شرح الاسم الأعظم).
ومن شعره الفائق قصيدة له في وصف الجنة ونعيمها والترغيب في العمل من أجلها، وردت في موسوعة المختار بن حامد وهي:
أيقظ جفونك إن القلب وسنان == وصمم الغزم إن العزم كسلان
وحن شوقا إلى أخراك مبتدرا == إن اللبيب إلى أخراه حنان
واعمل لدار بها اللذات قاطبة == راح وروح وراحات وريحان
ظل وماء وأزهار مفتقة == عن الكمائم أشكال وألوان
قيعان مسك بها الأنهار جارية == خمر وماء وماذيٌّ وألبان
في جنة من نضار راق منظرها == ترابها المسك والجدران عقيان
بها المقاصير والخيمات عالية == من اللئالي وفيها الحور سكان
بيض نواعم أبكار منعمة == تحار فيهن ألباب وأذهان
يرفلن في سندس الفردوس في حلل == من فوقها حلل من تحتها بان
سورن من حلي دار الخلد أسورة == فيهن در وياقوت ومرجان
في مثل ذاك فنافس كل ذي ورع == وجاهد النفس إن النفس شيطان
مهورهن صلاح دائم وتقى == زهد وصبر وإخلاص وإيمان
لا تحسب النظم أقوالا ملفقة == كل يصدقه نص وقرآن
واختر لنفسك ما تبغيه من بدل == وزن بعقلك إن العقل ميزان.
توفي الشيخ سيدي المختار زوال الأربعاء خامس شهر جمادى الأول سنة 1226هـ، عن أربع وثمانين سنة، ويقال إنه ولد سنة خمس وثلاثين بعد المائة والألف فيكون عمره إحدى وتسعين سنة، ودفن ببولنوار في منطقة أزواد، وقد رثاه ـ كما في كتاب الأخبار ـ العلامة المختار بن بون بقصيدة مطلعها:
صدق الزمان إذا تراه كاذبا :: وبنات غير صدقه إن يصدق.
وورث أبناؤه وأبناء أبنائه علمه وفضله وصلاحه، وتولى الخلافة من بعده ابنه العلامة الشيخ سيدي محمد الخليفة صاحب التآليف الجمة التي منها كتابه "الطرائف والتلائد من كرامات الشيخين الوالدة والوالد"، ووالدته المذكورة هي العالمة الصالحة لالة عائشة بنت سيدي المختار بن سيدي الأمين الأزرق (1160هـ - 1244 هـ) ، قال في شأنها في الطرائف والتلائد: " لم أر أعبد منها ولا أتم استقامة ولا أحسن سمتا ولا أرفق بجار".
وفي كتاب نظام الحكومة النبوية المسمى "التراتيب الإدارية" للشيخ عبد الحي الكتاني: "وقد ثبت عن كثير من نساء أهل الصحراء الإفريقية خصوصا شنجط وتنبكتو وكنتَ العجب حتى جاء أن الشيخ المختار الكنتي الشهير صاحب الطريقة الشهيرة به ختم المختصر الخليلي يوما للرجال وختمته زوجته في جهة أخرى للنساء، وفيهما ألف ولدهما الإمام العلامة أبو عبد الله محمد بن الشيخ المختار كتابه الطريفة والتالدة في مناقب الشيخ الوالد والشيخة الوالدة وهو في مجلد ضخم".
وما أحسن قول الشيخ سيديا يرثيهما:
جادت سحائب رأفة الرحمن = بهوامل التكريم والرضوان
وبوصف محض الود والزلفى على = جدثين حل حشاهما الشيخان
جدثين غُيّب فيهما إذ غيّبا = من غيب القمران والملوان
ملوية تمييز نسبة ظرفها = قمرية مجلاتها بشران
لهما عنا وجه العلوم وحكّما = بسواهما من سار الأكوان
جعلا ليسكن في ذمامهما الورى = بظلال عافية وحرز أمان
وليبتغوا بهما على ما أبصرا = وتبلجا من فضل ذي الاحسان
وليهتدوا بهما لنهج حقيقة = عفيت معالمهُ من البطلان
وليجتنوا رطب المعارف والتقى = من عذق حالهما الجنى الدّاني
لاحا وأحلاكُ الجهالة فحمة = وملابس البدع الجداد مثان
والجورُ يسطو بالعدالة سطوة = متجلجلا منها صفا ثهلاني
والدين منهدم القواعد مركسٌ = بأخامص الطغيان والعصيان
فمحا شروقهما دياجر جهل من = جنحوا إلى التسليم والإذعان
وبدت بصبح هداهما ونداهما = شمس الهدى ببصائر العميان
فتحققوا بعد العمى بحقائق الإيمان والإسلام والإحسان
وتحكمت بهما على الجور العدالة في البلاد تحكم السلطان
وتتابعت منن الكريم ومزّقت = حللَ الحوادث راحةُ البرهان
وغدا منار الدين بعد تهدم = ثبت الأساس مشيد الأركان
وتطاولت سنن الرسول تطاولا = وتضاءلت بدع اللعين العاني
وتساجلت أطيار خير طريقة = بترَنّم طربا على الأفنان
وتطارد البحران بحر حقيقة = وشريعة في مجمع البحران
وتلاطم الأمواج فيه تلاطما = وتقاذفت بالدر والمرجان
فنفائس العلم النفيس تقلدت = منها الرواة قلائد العقيان
وتمتعت منها القلوب تمتعا = وبها تشنف عاطل الأركان
وتضمنت منها الصحائف زبدةً = أخاذة بمجامع الأذهان
فهما وإن منحا من السلطان ما = لم يؤت سلطان من السلطان
قدما على الرب الكريم ولم يكن = لهما إلى الفاني التفات ثان
بل سلما للمشتري نفسيهما = وتفانيا في الحب أي تفان
وتكفلا بحقوقه مما به = وبغيره من سائر العبدان
لم يبرحا آناء ليلهما وأطرا ف النهار كذاك يبتدران
حتى إذا ما الحق ردّهما إلى = ما تشتهي العينان والأذنان
ألقى بأعباء الخلافة كلها = وعتادها ولوائها المزدان
لوحيد قطر ما يقدّرُ قدره = وفريد عصر ما له من ثان
فأحال عيبة سره في سره = وألاح فيه شوارق العنوان..
وهي طويلة رائعة أكتفي بهذا القدر منها هنا، الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
كتبه محمدن ولد امَّدْ أمين الثقافة بالمنتدى العالمي لنصرة الرسول صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم
وسيتواصل إن شاء الله "تاريخ موريتانيا الإيجابي" بأمر من شيخنا الشيخ علي الرضا بن محمد ناجي رئيس المنتدى العالمي لنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم حفظه الله ورعاه وأيده بنصره