اتسمت الإطلالة الثانية للرئيس ولد عبد العزيز- من باحة القصر الرمادي- بأنها كانت أكثر تنظيما وأقل ارتجالية من سابقتها، وبدا هو نفسه في وضع نفسي وفيزيقي أفضل من السابق.
لكن الذي لم يتغير منذ أول مؤتمر صحفي له وحتى هذا الأخير، هو واقع المواطنين ومنظومة الأسس التي حكمت الدولة وآلية إدارة الشأن العام، منذ أغسطس 2008 وحتى الآن.
فالبلد اليوم على حافة المجهول ومكوناته في تنافر وتوجس، تطورت فيه الجريمة، وتكشفت لأهله حقيقة "محاربة الفساد"، التي تحولت إلى أورام، بعضها متوار عن الأنظار، والآخر باد للعيان، محاربة أخفى صخبها الشديد وطابعها الدعائي، محورية النصف الثاني للمسئولين السامين في الدولة في هذا الفساد، فصار كل من يريد أن يعبث بمقدرات البلد، ما عليه إلا أن يتوجه إلى ربة بيت المسئول بالهدايا والدرر، ويقوم بإشراكها في "كعكته"تلك ، ليثبت في المنصب و يظفر بالغنيمة.
سنين يراها البعض"سبع عجاف" وينعتها آخرون بأنها هي الأفضل في التاريخ الموريتاني.
وما دامت الوقفة هذه المرة "تقييمية" وسلمنا جدلا بما ذكره الرئيس في "لقائه الصحفي"، فلنا الحق في أن نتساءل نحن ساكنة هذا البلد عن الواقع المعيشي، هل تحسن، أم ساء؟ هل خرج التعليم من نفقه المظلم، أم أنه تردى أكثر وأصبح في حكم الميئوس منه؟ وهل قللت الزيادات العددية في المستشفيات ومراكز الاستطباب والمستوصفات، من عدد الفارين من جحيم الصحة في بلادنا؟ وما ذا عن الأدوية المزورة والصيدليات غير الخاضعة لأي معيار؟ وهل خرج الأمن من كبوته المقلقة؟ وهل زادت ثروة الخصوصيين الذين وجدهم في الميدان؟ أم أنه تضاعفت فقط لائحة المفلسين داخل صفوفهم؟ وهل وجد الرئيس فرقا بين استقبالات المواطنين الحالية وتلك التي مردوا عليها عبر جميع الحقب؟.. هل وجدها هذه المرة صادقة؟ أم أنها كانت مجرد كذبة، ك"حمل الناس لأواني الماء الفارغة"؟
وهل نجح الرئيس في تقليم أظافر المستفيدين باسمه والمستغلين لروابطهم العائلية به؟
كيف كانت علاقاتنا مع الجوار، وكيف أصبحت؟ أين شعار التصالح مع الذات وأين نحن من ضرورات التقيد بدستور البلاد، الذي كرس اللغة العربية، لغة لفاتورة الماء والاتفاقيات مع الآخر وصياغة القرار؟ هل أصبحنا أكثر استقلالية في القرار، أم أننا حشرنا أكثر في حظيرة المزاد والارتهان للمطامع والطموحات الشخصية؟
أين هي تلك الخطوة السياسية داخل الحلبة الإقليمية أو الدولية، التي جلبت للبلد مكاسب إيجابية، أو قدمت لمواطنينا في الخارج إنجازا؟ ما ذا ربحت جالياتنا المنتشرة في إفريقيا من الرئاسة - بالتزكية – للإتحاد الإفريقي؟
++++++++++++
كلها تساؤلات مشروعة، كان على الرئيس أن يجيب عنها، ما دام قد قرر أن يخاطب الناس وأن "يفتح صدره" ل"أكرا" ويسمح بتسليط الضوء حول حقيقة ثروته، ويعترف بأنه انقلابي ويسمح بتسليط الضوء على جوانب غامضة، تمس فترة مأموريته.
صحيح أن الرئيس قد حرص- فيما يبدو- على أن يتفادى أخطاء مؤتمره الصحفي السابق، الذي حسب عليه لا له.
وصحيح كذلك أنه نجح في أن لا يدفع إلى الحديث عن أزمات المنطقة وعن "نجاحاته الديبلوماسية"، التي استطاع من خلالها أن يغضب الجارين الشماليين، الذين امتازت علاقاته بهما بالغموض والتذبذب وساوى بينهما في عدد المطرودين.
ومن الواضح كذلك أنه الرئيس الموريتاني الوحيد، الذي تميز بكثرة مؤتمراته الصحفية المباشرة- رغم مظهره الذي يوحي بالتحفظ والانزواء.
فما دام هذا خياره فإننا نستجيب لهذا التوجه- الذي فرضت علينا "لقاآته الصحفية" أن نشاطره تقييمنا لهذه المرحلة، التي قفز فيها فجأة إلى سدة الحكم ومركز القرار، في بلد لم يكن أي شخص فيه يتنبأ له بمستقبل كهذا- ونطرح عليه السؤال التالي:
هل كانت هذه السنوات السبع سمان أم عجاف؟
من الصعب الحكم بموضوعية على وضع بلد، يغوص في رماله المتحركة، وتحبسه عزلته الجغرافية الطويلة عن التفاعل المتوازن مع محيطه القريب.. بلد أقعدته ولادته القسرية عن الاستجابة لمتطلبات تركبته السكانية، التي أراد المستعمر لها أن تكون دائما مصطنعة، ضبابية ومتصارعة(فرق، تسد).
فشهادة ميلاده السكانية، تؤكد رغبة "الراعي الفرنسي" لهذا الاستقلال في أن يظل بلدا بلا هوية وبلا دور.. لا محل له من الإعراب، داخل الفضاآت المتداخلة في نسيجه الوطني، لأنه ببساطة، مجرد همزة وصل، ولا يحق لمواطنيه أن يتخاطبوا بلغة يفهمونها معا في الثقافة والسياسة والعيش المشترك.
بلد أريد له أن يبقى قلقا، تتحرك فيه المواقف والسياسات، كما تتحرك رماله.. تتصارع نخبته حول ماض الأجداد، الذي ترى أنه أكثر أهمية من مستقبل الأحفاد.
بلد يتفرد بكون قيمة الشخص فيه تولد معه.. يعيش زمنا دائريا، يصعب أن يخرج منه إلا نحو المجهول.
"خيراته" مثلت عربونا ل"سلامته" من بطش الباطشين وتقية لفساد المفسدين في الداخل والخارج.. بلد يفاخر حكامه علنا بأن سجونهم خاوية من المواطنين الأبرياء ويعتقد مواطنوه أنهم هم ومالهم ملك مشاع لكل من يدعي أنه رئيسهم.
في هذا المناخ تفتحت عبقرية الرئيس ولد عبد العزيز السياسية وعلى أنغام موسيقاه العسكرية، تعرف على البيان رقم واحد، فكان النبتة، التي يستحيل أن تشذ عن القاعدة، لذا برر انقلاباته بكونه وصيا على البلاد وأنه الضامن ل"مصالحها" و"الذائد" عن "حياضها"، دون اعتبار لإرادة شعبها أو ما تقرره نخبتها.
من هنا يمكن أن نفهم مرامي الرئيس من هذه اللقاءات الصحفية، التي يهدف منها إلى أن يؤكد أنه أتى بما لم يستطعه الأوائل.
فالفساد كان قبله وانتهى في عهده، والفقر ساد قبله وسينتهي في نهاية مأموريته الحالية( فقد أكد خلال لقائه الأخير مع الصحافة أنه سيحقق جميع احتياجات الولايات المزورة من الماء والكهرباء والتعليم والصحة والطرق والشغل خلال الفترة المتبقية من مأموريته الحالية!)
البلاد أيضا في نظره، قد "وضعت على السكة"(دون تحديد لطبيعة هذه السكة)، ودون جواب مقنع حول مصير موارد "الطفرة المعدنية" ومبررات تضاعف المديونية الخارجية، المتزامن مع شعار: "التمويل من الموارد الذاتية"، ولم يوضح الرئيس، هل هي نفس السكة، التي سار عليها حديد الشمال، و نفط البحر وسمكه، ومررت عبرها السياسات "المنقذة" للثروة الحيوانية، التي تواجه اليوم خطر الإبادة والفناء، بفعل جفاف شامل وقاس.
وهل هي السكة، التي تكفلت بموجبها الجهات الأجنبية ومبادرات الخواص بمهمة التعليم في هذه البلاد، وسارت عليها سياسات الصحة، لتصبح من اختصاص السنغال جنوبا والمغرب وتونس شمالا، وأصبح بموجبها كذلك فقراء الريف، محميين من فاقتهم، بفضل "دكاكين أمل"، التي قد لا يكون كثيرون منهم قد "ظفروا" بها أصلا أو تبعد عنهم عشرات الكلمترات في أحسن الأحوال.. أما أولئك الفقراء القاطنون في الحضر، فلهم قصة أخرى.
إنها سكة أكدت لحملة الشهادات، أنه من حقهم التظاهر فقط.. أما التوظيف فهو دولة بين خاصة الخاصة وحق غير مشاع للعموم.
سكة طالما فاخر الرئيس ببعضها وأكد أنه بموجبها أصبح جميع المواطنين مجبرين على دفع فاتورة الكهرباء والماء والتعليم والصحة والنظافة والأمن والأوراق المدنية، وبأسعار تتناسب زياداتها طرديا مع زيادات المحروقات.
فهل هذا كله كان "عربون قبول" للسماح لهذا المواطن أن يبقى ضمن رعايا رئيس الفقراء؟
أم أن الأمر مجرد محطة فرضتها الضرورة، كي تنجح الوعود في آمال وأحلام "الطفرة" النفطية والغازية والمعدنية والديمقراطية؟
هذا هو الواقع بعد وخلال هذه السنوات السبع، التي امتازت بكونها مطمئنة، عند ما نستمع للخطاب الرسمي ونحن مغمضي العينين، وتصبح صادمة عند ما نفتح العيون وندقق في الصورة المطرزة من الخارج والقاتمة من الداخل.
هل نجح الرئيس؟
لقد نجح الرئيس في تجاوز بعض سلبيات مؤتمره الصحفي السابق، وبدا أكثر أريحية وأقل تشنجا..لكنه كان غير ملم بما يكفي بتفاصيل ملفات كثيرة هامة ومحورية- عكس ما كان يتصور- ولم يتحدث عن مواضيع جوهرية، تمس الحياة السياسية والجوار الإقليمي.
- فلم يجب عن السؤال المتعلق بما يضمره اتجاه مرحلة ما بعد انتهاء مأموريته 2019 ولم يقل صراحة ما ذا ينوي عمله في المستقبل.
صحيح أن هناك محاذير انفضاض جماعة المتزلفين من حوله، بمجرد أن تشعر بنهاية فترة حكمه، لأن ولاءها للمنفعة وليس للشخص.. لكن الظلال الثقيلة التي يطرحها صمته، هي الأخرى،" تفرمل" الحياة السياسية وتضع البلاد في خانة "انتظار المجهول"، الشيء الذي يفرض عليه ترتيب الأوضاع، سواء تعلق الأمر بالرحيل أو التمديد.
- الأزمة السياسية بين موريتانيا وجارتيها اللدودتين، هي الأخرى ليست في وضع مريح، فلم يرم الرئيس بحجر في مياهها الراكدة، ولم يبدد الأجواء المشحونة بيننا وهذين البلدين، ليفتح آفاقا جديدة، تتسم بالندية والتوازن بيننا وهذين البلدين المهمين.
- تجاهل استضافة السنغال لاجتماع غير واضح المرامي ولا الأبعاد، في وقت تسعى فيه "افلام"، المنبوذة محليا إلى خلق شقاق داخل شريحة الأغلبية العددية، انسجاما مع الشعار الذي تردد بعد أحداث1966، بوصفه الطريقة الوحيدة للانتقام من هذه القومية والوسيلة الوحيدة لتكريس تبخير الهوية الوطنية، بغية تحويل الوطن إلى ريشة في سماء السنغال، الطامح لفضاء جغرافي يسمح له بحل أزماته الديموغرافية، التي فأقمها شح موارده.
- لم يوضح الرئيس، كيف سيتمكن من حل جميع مشاكل التنمية في الولايات المزورة وتلك المستقبلية، والتي هي في حكم تلك التي قد زارها؟
- كيف سيعالج انهيار التعليم وتدن الصحة ومفاعيل حالة الكساد الشامل، وتكلس الواقع السياسي وتنافر التركبة الاجتماعية في ظله وتراجع الدولة في عهده عن الكثير من واجباتها اتجاه المواطنين، وانحسار خريطة اهتمامات السلطة في قشور تبسيطية، سريعة المفعول، قابلة للإستغلال المتكرر(مثل مشاريع الألبان- العلف- التكوين والتشغيل- شبكة الطرق التي عرفت بطءا غير قابل للتبرير..إلخ)، وصفقات التراضي حول كل شيء، وغياب الشفافية في الثروة المعدنية وفي التسيير، واختفاء استقلالية القضاء من التداول اليومي، وغياب الثوابت التي تضبط أسلوب الحكم.
فبأي معيار يبرر رفع شعار محاربة الفساد ويغيب الشفافية في نفس الوقت.. وكيف تحولت في ظل حكمه محورية اهتماماته بالفقراء، إلى زيادة في معاناتهم اليومية، وبأي منطق يبرر اقتطاع مساحات من منشآت عمومية، لتقام عليها "حوانيت" خصوصية؟ (الملعب الأولمبي- مدرسة الشرطة..إلخ)، وما ذا عن الدور التابعة للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، الواقعة في وسط العاصمة؟
- كان على الرئيس أن يقدم إحصائيات دقيقة حول حالة الفقر، التي نصب نفسه رئيسا لأصحابها، هل نقص الفقر خلال مأموريته، أم زاد؟ وهل موسمية الكشف عن حالات فساد من حين لآخر، هي للاستهلاك السياسي؟ أم أنها خيار لا رجعة فيه؟ وكيف يتم تسويقها في ظل ثراء بعض أقاربه ومقربيه؟ وعلى أي أساس تم إفلاس جمع آخر من المقاولين السابقين؟ وبم نفسر محورية زوجات المسؤولين في انتشار الفساد وحماية المفسدين؟
بم يبرر السيد الرئيس "إعادة الإعتبار" لجملة من الفاسدين والمفسدين، مردوا عليه وأزكمت مسلكياتهم كل الأنوف؟
هذه هي سنواتكم وذلك هو حصاد السنين، فهل وجدتم من اللائق تركه للزمن ولحكم التاريخ؟ أم أنه تكريس فقط لسياسات التأجيل، التي دأبت السلط المتعاقبة عليها، اتجاه كل كبيرة وصغيرة في هذه البلاد، التي أضحت في عهدكم مفتوحة على كل مجهول، في وقت أطلت على المنطقة فتن كالليل المظلم؟
+++++++++++++++++++++
هذا جزء من الأسئلة، المفترض أنها قد طرحت على الرئيس، لكن "ضيق الوقت" قد يكون حال بينه والإجابة عنها، وقد تكون انتقائية المحاورين قد ساهمت في ذلك.. لكنها أسئلة، ستبقى مطروحة ومن حق المواطنين الذين يتحدث الرئيس باسمهم أن يجدوا جوابا عنها.
وإلى لقاء صحفي آخر.. تصبحون وتمسون بألف خير.
بقلم/ محمد المختار ولد محمد فال- كاتب صحفي