في تأبين وذكر بعض صناديد فرسان بني حسان (ح2)
2. من تشيت إلى المذرذرة ومنها إلى نواكشوط
ومكثنا في جحيم تشيت ستة أشهر في عزلة عن الأهل والوطن. كانت تشيت - ولعلها ما تزال- أشد مناطق البلاد عزلة. وفي عهد الرئيس المختار ولد داداه (رحمه الله) خصصت الدولة لها شاحنة تربطها بتجگجة عاصمة الولاية مرة في أول كل شهر. وتُمضي تلك السيارة نحو أسبوع وهي تصارع زهاء مائتي كيلو متر هي المسافة بين تشيت وتجگجة. وعندما تصل في طريقها إلى منهل زيك (حوالي 20 كلم من تشيت) يصل دوي محركها إلى الأسماع، فيخرج سكان المدينة بطبولهم إلى مدخلها ويظلون يقرعون الطبول ويرقصون ويلعبون احتفاء بالقادمين الذين قد يطول انتظارهم يوما ويومين إذا لم تتعرض السيارة لعائق. وعبر رحلات هذه السيارة كان أحد الشرفاء الكرام يحمل منا وإلينا بريدا شهريا سريا إلى الأهل. فتحية إلى ذلك الشريف أينما كان، وجزاه الله عنا خيرا.
.وفي أحد أيام شهر أغسطس الكريم، وبعد انصرام ستة أشهر على اعتقالنا، علمنا من خدمنا (ألمين رحمه الله وسيد ولد عالي بي؟) أن مفرزة من الجيش بقيادة ملازم شاب يدعى محمد ولد عبد العزيز قادمة إلى تشيت في مهمة. وكم كانت فرحتنا غامرة عندما علمنا بعد ذلك - من نفس المصدر المطلع- أن فردا من أهلنا قد تجشم المستحيل وقدِم صحبة تلك المفرزة. ومن سيكون غير فاطمة؟ إذ من لديه إرادتها وشجاعتها وصبرها ووفاؤها؟ وقد أحسن أهل المرتجي وفادتها وأكرموها ولا غرو، وسمح لها الحاكم بلقائنا متى شاءت.. وبينما كانت ضيفتنا العزيزة تتهيأ للرحيل قافلة في كنف نفس المفرزة، هبطت رسالة من السماء تقول بإنهاء سجننا في تشيت ووجوب إرسالنا إلى تجگجة. وقد خيرنا الحاكم بين السفر مع المفرزة العائدة إلى تجگجة مساء نفس اليوم، أو امتطاء طائرة عسكرية صغيرة حطت للتو في "رگ" تشيت لتنقل مستودع أسلحة وذخيرة حامية تشيت إلى تجگجة بعد أن تم الاستغناء عن تلك الحامية في ظروف السلم المذل الجديد. وقد اخترنا ركوب الطائرة رغم ما في تلك "الرفقة" من خطر؛ إذ كنا وضيفتنا يومئذ ممن "يستلذ ركوب الخطر".
ولا يمكنني أن أتصور اليوم كيف جلسنا في جوف العلبة الصغيرة بين أكوام القنابل والمدافع ومختلف أنواع الذخيرة، هروبا من جحيم السجن في تشيت ومن عذابات طريقها الوعر؛ فأقلعت بنا تتقاذفها العواصف الهوجاء وفي بطنها - الذي لم يبلغ الحلم بعدُ- بركان من لهب وثلاثة مغامرين مدنيين ومثلهم من العسكريين أخذ أحدهم يلهو بترويع ركابه بفرقعة فقاقيع لحاف بلاستيكي ضخم يفصل القنابل والذخيرة بعضها عن بعض دون أن نبالي.. فمن يركب البحر لا يخشى الغرق، بينما كانت تحيطنا وتشيعنا هالات آلاء المرتجي وأسرته الكريمة، وعناية ولطف ذلك الضابط الشاب الذي يخبئ له القدر أن يكون الرجل المنتظر الذي سيضع نهاية لمأساة موريتانيا بعد ربع قرن من ذلك، ويخرجها من التيه، ويصبح ثامن رئيس للجمهورية الإسلامية الموريتانية المتصالحة المتعافية الناهضة.
بقلم الأستاذ محمدٌ ولد إشدو