لو لم يكن مقال "ذكرى غزي الأركاب.. لنحافظ على المشعل" من توقيع شخص آخر غير السياسي الكبير محمد يحظيه ولد ابريد الليل، لما لفت انتباه الكثيرين.
ولو كان الظرف الذي جاء فيه المقال، غير الظرف السياسي الحالي الغائم بالنذر والمخاوف والهواجس والشكوك، لما لفت انتباه كثيرين كذلك، دون شك.
يُنظر في عدة أوساط من النخبة الموريتانية إلى القيادي التاريخي لتيار البعث محمد يحظيه ولد ابريد الليل، حقا أوزورا، على أنه عراب دائم لكل الانقلابات في البلاد، منذ الانقلاب الأول على المرحوم المختار ولد داداه عام 1978، إما تأطيرا أ وتنظيرا، أو استدعاء حتى لا أقول استجداء.. أو مباركة وترحيبا، وذلك أضعف الإيمان.
وربما يعرف كثيرون، أن ولد ابريد الليل، أدمن المقالات "المطولات" المكتنزة بالإيحاءات التاريخية والتنظيرية، المليئة بالحذلقات الفلسفية والسياسية، وبحرف فرنسي باذخ، وأسلوب ثري ومفعم بالاستدلالات والاستشهادات، في منعطفات كبرى خلال السنوات الأخيرة، حتى ارتبط في أذهان كثيرين، صرير قلمه بتطورات مفصلية، لا تلبث أن تسفر عن وجهها أياما أو أسابيع، بعد كل "مطولة" من مطولات هذا السياسي المصر على الحضور، وإن من وراء حجاب، كأنه يستلذ العمل السري، الذي مارسته حينا من الدهر، كل التيارات السياسية في البلاد لعقود.
ويعرف كثيرون دون شك، العلاقة القوية التي ربطت هذا الرجل بالأنظمة العسكرية، التي حكمت البلد منذ نهاية السبعينات، ويصر بعضهم، على أن الرجل الذي دخل عرين السلطة مع انقلاب العاشر يوليو، لم يخرج منه أبدا إلى اليوم.
ولم تكن علاقة ولد ابريد الليل، بالرئيس محمد ولد عبد العزيز استثناء، بالنسبة لعلاقاته بأسلافه ممن سكنوا القصرين الآجري والرمادي، على مدى ثلاثين سنة، فقد ظلت الصلة بينهما قائمة وراسخة وقوية، لم يعتريها فتور يذكر.
وبين الحين والآخر كان الرجل يطالعنا بمواقف، يمكن أن نضعها في سلة "تنظيرات" تصب في نسق تقوية قاعدة الشرعية لنظام حكم حليفه، تارة بالاستناد إلى التاريخ، والتشكيك في شرعية كل من سبقوه، لأنهم كانوا امتدادا لفرنسا، وعونا لها في نشر قيمها وثقافتها، وقبول استقلال ممنوح..
وتارات كان ولد ابريد الليل، يستنجد يالجغرافيا، فيضع الشمال في مواجهة كل جهات موريتانيا، وقد حاز السلطة من خلال ضباطه القلة، ويديرها بكل حرفية، عجز عنها نظراؤهم من ضباط المناطق الأخرى على كثرتهم.
وربما زادنا من الشعر بيتا، فطالب أن يبقى الحكم في يد الشمال، طبعا من أجل خير الجميع.. ومن أجل ديمومة الكيان الهش، المهدد دائما في وجوده، بسبب اختلالات رافقته من ولادته القيصرية، غير الطبيعية قبل نحو ستين سنة.
وبين هذا وذاك، كان ولد ابريد الليل الذي أدمن كيمياء السياسة الخفية، حد الإيمان، يسجل بين الفينة والأخرى، حضوره في المشهد العام "المحايد"، بالتعبير عن قلقله على مستقبل الكيان الموريتاني، وربما عرج على أخطاء الآباء المؤسسين، وعدم سعيهم للتفاعل بحيوية كافية، مع الفضاء الحساني البيضاني العام.
وليس لي ولا لغيري، أن يحاكم السياسي الكبير على مواقفه وآرائه، فذلك مما يدخل في سياق الحرية المكفولة دستوريا.
ولكن الظرف السياسي الخاص، الذي تمر به البلاد هذه الأيام، يجعل من المناسب الوقوف عند بعض الملاحظات السريعة على ما سطرته يمينه هذه المرة.
لا يخرج ما كتبه ولد ابريد الليل، هذه المرة، عن جملة مواقفه وآرائه المعروفة لدى الجميع، وهي امتداد لخطه السياسي الذي نهجه منذ سنوات، باحتلاله لخطة المنظر غير الرسمي، وغير المعلن لنظام الرئيس محمد ولد عبد العزيز.
لم يرض ولد ابريد الليل، منافسة من هم دونه سنا وتجربة على المواقع والمناصب الحزبية، وإنما فضل اختصار الطريق إلى أذن وعقل الرئيس الحاكم، بدل الصراع على لجان وأمانات الحزب الحاكم.
ومن هنا يأخذ كلامه كل الأهمية في ظرف موريتانيا الراهن، الذي يشهد لأول مرة، رئيسا يستعد لإنهاء فترتين رئاسيتين، هما كلما يسمح به الدستور، لمن يدخل قصر أم ركبة، وهو يعترف رسميا وعلنا أنه تارك السلطة.. ولكنه لن يبرح المشهد العام.
بل ويذهب أبعد من ذلك في التوضيح، إلى أنه سيكون له مرشح يجاهر بدعمه، وإن لم يسمه حتى الآن.
صحيح أن النية المعلنة لمغاردة السلطة، تنتابها مخاوف مصيرية ووجودية بالنسبة لكثيرين في المحيط المباشر للرئيس، ودائرة القرار في نظامه، وما زالت تحوم حولها كذلك شكوك خارج هذه الدائرة.
ولكن بعيدا عن النوايا، ليس في الأمر ما يجافي المسموح به قانونا، فمن حق أي كان، أن يدعم ويرشح من يشاء لأي منصب انتخابي، ولكن ما يعتمل من حول الرئيس.. في كواليس أغلبيته الداعمة ومنظري ومؤطري نظامه يثير القلق، خاصة بالنسبة لعملية التداول على السلطة، في بلد لا يمتلك تقاليد في هذا المجال.
والمثير واللافت في آن واحد، هو أن الرئيس، يبدو مقسما بشكل واضح، بين ضرورة ترك السلطة، كما يقتضي ذلك احترام الدستور، والخشية من عدم استمرار النهج الذي بدأه في تسيير شؤون البلد، فقد أكد في مرات، أنه لن يقبل بتردي التجربة التي بدأها، وقال مرة إن النظام سيستمر في السلطة.
وقبل أيام، قال لقيادات حزبه إنه لن يتركهم.. ولن يقبل للبلد أن يحيد عن هذا النهج...
ذكرني هذا القلق الحائر، سامحوني لم أجد كلمة أخرى، بموقف مماثل عاشه الزعيم اليوغسلافي الكبير جوزيف بروز تيتو، وقد أحس بدنو أجله، وكانت خشيته تزداد بمرارة، حيال مصير الدولة التي أوجدها من صهر أعراق وقوميات مختلفة ومتنافرة، والتي لن تعمر طويلا بعد وفاته، كان يقول: "علي أن أجد رجلا يمتلك الحكمة ليقود البلد، ويمتلك الجاذبية ليقبله الناس.. أحيانا وجدت الحكمة دون جاذبية، ومرات وجدت الجاذبية لكن دون حكمة"
هل يخلط ولد ابريد الليل، في مقاله الأحدث، الحكمة بالجاذبية، ليقدم لولد عبد العزيز وصفة تهدئ مخاوفه وهواجسه، وتنهي هذا القلق الحائر والمتصل منذ فترة، والذي يزداد كلما اقتربنا من سنة2019 ، فيقدم له مصدرا للشرعية، ينبع من سياقات سابقة لميلاد كيان الجمهورية، وبالتالي يعلو على كل قوانينها، بما فيها الدستور.
هل دعوة ولد ابريد الليل إلى استمرار رفع مشعل المقاومة، التي كانت الشعار الأبرز لنظام ولد عبد العزيز، هي وجه جديد من أوجه السعي لاستمرار هذا النظام، بحجة أن " "قرنا من السيطرة والصمت المطبق ما زال يهدد مكانة المقاومة" .. وأن "مهمة رجال اليوم الذين هم ورثتها والمستفيدون منها هي الحفاظ على هذا المشعل"
وبالتالي يكون استمرار النظام ضرورة تمليها محورية المقاومة وأهميتها وما يواجهها من تحديات.
ولعل في استدعاء ذكرى "غزي الأركاب" وما نثره الكاتب من تفاصيل، لا تسعفنا المصادر التاريخية بالكثير منها، عن حيثيات هذا المؤتمر الكبير، حضورا وتنظيما وسياقات، ما يعضد ذلك، مما يوحي بنوع من السعي للتأسيس لهذه الشرعية وتعزيزها، وترسيخها في أذهان الجماعات القبلية التي تنادى أعيانها ورموزها إلى الصمارة مطلع القرن الماضي، والذين يشكل أحفادهم اليوم، القوة الفاعلة في المشهد السياسي في البلاد.
هل نجح ولد ابريد الليل، في تقديم خلاصة مقبولة، أم لم يزد على التعبير عن حدة القلق، الذي يساور النظام ومنظريه، وعلى رأسهم الرجل الوحيد الباقي تقريبا من جيله، قرب قمة السلطة، رغم عواصف وتقلبات السياسة خلال العقد الذي يتهيأ للانصرام..
الكاتب الصحفي محمد ولد حمدو