دقة - حياد - موضوعية

لا رجال إلا شفيرات المذرذرة.. بقلم يعقوب بن عبدالله بن أبـــن

2018-03-05 02:56:21

كنت أسير على الطريق الجديدة الرابطة بين "المذرذرة" و الجديدة، فلاحظت مرور العديد من سيارات النقل التي لا أعرف أصحابها و لم أتعود بعدُ على شكولها في تلك الربوع (باصات صغيرة سيارات رينو 21 ...) ، فجالت في خلدي بعض الخواطر والنكت المرتبطة بتاريخ طريق المذرذرة ـ تكند،

.

فقمت بتسجيل بعضها في هذه العجالة- التي ركزت فيها على الفترة التي سبقت الطريق المدعمة أو "طينوه" كما يحلو للبعض أن يسميه -.فلعلَّها أن تستهوي بعض القراء الكتاب فيتولوا تكميلها من خلال التعاليق أو يفردوا لها موضوعا ت مستقلة..

ليس الربح المادي وحده هو ما يدفع أغلب "شفيرات المذرذرة" (الشفير هو السائق) إلى تحمل عملهم الروتيني الشاق، بل كانت لديهم أخلاق رفيعة و حس بالمسؤولية اتجاه زبنائهم المكونين من بعض تجار التجزئة وصغار الموظفين و زرافات من القرويين وتلاميذ الثانويات و سكان الأرياف...
و من المعروف أن السيد أحمد لسحاق بن إيفكو رحمه الله كان يشحن سيارته - بعد العطل الأسبوعية - من تلاميذ ثانوية روصو ويوصلهم قبل ابتداء الدروس ولم يرزأ ذويهم درهما..
تغليب الرجل - الذي عرف به - للبعد الأخلاقي على النفع المادي ، هو الذي يشير إليه الأديب محمد بن مامين الأبهمي فى كافه الشهير:

اكثـــرْمزاحْ أهلْ الوتاتْ *** وحنَ عنُّ بعدْ اسكِتنَ
و أحمد لسحاق إلَ بَرتات ْ *** الوثَّ نِحنَ يرْبحنَ
كان " شفيرات المذرذرة" على يقين من أن بقاء مدينتهم مرتبطة بوجود شرايين حيوية تربطها بالعواصم المجاورة (روصو انواكشوط،) لذلك حرصوا على تزويدها كل يوم بما يستطيع تجارها البسطاء شراءه من سلع وحبوب و ملابس، وبما أنهم يتحلون بالصبر والأناة فقد دأبوا على تلبية رغبات زبنائهم رغم كثرتها وتشعبها أحيانا . فعلى السائق المسكين أن يبحث للتجار عن بضاعة جيدة رخيصة ويقتني للنساء حاجاتهن و يستلم رسائل الموظفين و يشتري الأدوية للمرضى وبشحن قنينات الغاز..
و إذا قدر الله له القدوم إلى المذرذرة - بعد كثير من التوقف والتوقيف - فلابد أن يوصل لكل حانوت بضاعته ويضع لكل ذات حمل حملها و يبعث بكل رسالة إلى ذويها .... بحيث لا يبقى أمامه إلا بضع ساعات من الليل يتفقد فيها أهله و يأخذ قسطا طفيفا من الراحة قبل معاودة نفس البرنامج في يوم جديد فلا رجال إلا "شفيرات المذرذرة" وجزاهم الله عنا بأحسن جزائه ، ورحم من قضى نحبه منهم و أطال أعمار الباقين و أعانهم على مهمتهم النبيلة..

Berliet
رأي الطفل علي بن الصبار بأم عينه أول سيارة في مناسبة زيارة لبعض السنغاليين من مريدى الشيخ سعد أبيه للنمجاط ، حيث كانت الطريق آنذاك تمر بالمذرذرة قادمة من روصو فاخروفة فالنمجاط فتكند انخل فانواكشوط. ومن الطريف أنه هو ورفقاءه ظنوا الزيوت المتقاطرة منها أبوالَها فبالغوا لذويهم في تعفن رائحتها. وفي سنة 1920 قدم إلى المذرذرة أول سائق معروف السيد انجاي بُصكُ يقود شاحنة من نوعLatile ، في مهمة رسمية للإدارة الفرنسية ، ثم عمل سائقا لدى شركةLa combe ثم واصل بعد ذلك التردد على المذرذرة وتزوج و أنجب من أهلها..
تعود الأطفال على رؤية الشاحنات بصفة يومية بعد شراء السيد البو بن افكو - بعد عودته من الحج- لشاحنة من نوع "شيفرولى" و أتبعها بأخرى من نوع تي 46 مرسدس..

ربطت شاحنات أهل إفكو و تياه و باباه.. تجمعات إيكيد بالمذرذرة كما ربطت القرى الواقعة جنوبها بروصو وهكذا تشكل خط رسمي لنقل البضائع والركاب و الحيوانات، وبدأ الاستغناء التدريجي عن تسيير قوافل الجمال والحمير..
ثم خلفهم في خط المذرذرة ـ لكوارب سائقون كبار منهم أحمد لسحاق بن إيفكو و الحسن بن خيليد رحمهما الله والعيد بن ورزك والزايد بن المولود و أبياي بن امبارك العيد..

في بداية الستينات قرر الرعيل الأول من سائقى "لاندروفير باشى" (مامون بن اسلام بن ابَّا وول اباه وسيد انجاي وول بكرى ومحمدلمين بن عمِّ وعبدالله بن محمد خيرات وول المكى وول اكريبل...) تدشين طريق مباشرة تربط المذرذرة بتكند مرورا بالتجمعات المعروفة كباجليلاي وابير التورس وانهكاره وأيشايه واحسي ارحاحله والحرث..
شكلت هذه الطريق "الخمسينية" اختبارا صعبا لقوة تحمل السائقين ولطول نفسهم وجلادتهم وصبرهم في القرِّ والحرِّ على توصيل زبنائهم إلى انواكشوط...

ومارست الرجال ومارسونى *** فمعوج علي ومستقيم
ميزت أخلاق الناقلين الإيكيدية طريقة التعامل اليومي في محطة النقل الموجودة شرق سوق العاصمة والمعروفة ب "أگراج المذرذرة" فما رأينا قط فيها سمسارا، ولم تتحول عن مكانها إلا غرارا، رغم مرور عشرات السنين عليها ، ومن المعروف أن طول مكث الخيمة حتى تنال الأرضة من أعمدتها يعدُّ مدحا في العرف الإيگيدي..
وقد وفق السائقون دائما في اعتماد أسعار معقولة مقابل خدمات مقبولة، وبالتالي فلا داعي للسؤال كل يوم عن ثمن التذكرة، ويكفى في طلب "اباص " أن يتوقف السائق عند محطة التزود بالوقود ، فأما من أعطى فيؤخذ منه و من سكت فنظرة إلى ميسرة، ثم إنهم لا يساومون على الحقير كحقيبة و وعاء مسافر..
ومن المعروف في أدبيات النقل أن مقاعد المقدم الوثيرة تترك للمسنين و النساء، و يتأخر الشباب لقدرتهم على التحمل، و نادرا ما يتم خرق هذا القانون و مما يرويه السائقون في هذا السياق:

مشكلْ لكهولَ والتكدامْ *** مشكــيلَ مَاهِ مَحلولَ
لكهولَ شيــــنينْ الكدامْ*** واللورَ شين افلكهولَ
و نشير إلى أن سائقى المذرذرة يذهبون بالراكب إلى بيته، سواء كان في القرى الجانبية أو في نجد المدينة أو غورها ويضعون معه أثقاله، في جو ظريف خال من التعقد، و لا يلزمون ركاب رحلات العودة بالذهاب فجرا إلى "الدشرة" بل يمرون عليهم في بيوتهم ولو كانوا في أقصى المدينة. كما يوصلون الرسائل إلى ذويها أينما ثقفوا، ولم نسمع أبدا من يشتكى ضياع بضاعته أو نقوده. و لعل حرصهم على منافع المسلمين والتلطف بهم هو ما حدَّ من حوادث السير بينهم لله الحمد..

و قد كان مرور السيارات الخصوصية على تلك الطريق في حكم النادر، ومن الطريف أن جماعة من أهل المنطقة مر بهم أحد أعيان المحصر متوجها إلى انواكشوط فسألوه الرفقة ، فاشترط عليهم أن لا يتكلموا بالعربية ماداموا معه، ولم تدم رفقتهم طويلا لأنهم أخلوا بالشرط بسرعة، و كان الرجل صارما في تنفيذ اشتراطه..

محمد سالم بن الصبار من أشهر و أقدم السائقين في المذرذره:
بدأت مطلع الثمانينات مرحلة هامة من تاريخ طريق المذرذرة تكند مع سيارات "لاندورفير هورتم" مع جيل جديد من السائقين منهم على سبيل المثال لا الحصر عبد الله واحميدُ ابني عبد الرحمان وعلي بن هنض والبكاي بن دادَّا و سالم جخت ومحمدسالم بن الصبار وابراهيم الملقب لكهيل بن ابيليل... ، تزامنت هذه الفترة مع موجة التصحر وزحف الرمال وانعدام الأمطار والهجرات الداخلية باتجاه المدن..

كان السائق الماهر الخريت يحتاج ثمان ساعات على الأقل لإيصال مسافريه إلى العاصمة وهو ما يعنى أنه سيغادر المذرذرة الثالثة فجرا لكي يصل انواكشوط في العاشرة. هذا إذا سلم من الأعطال الفنية و نفاد البنزين و الضلال عن الصراط غير المستقيم في حالة ما إذا اضطر إلى أن يعرج إلى بعض البوادى البعيدة عن الطريق..

إذا سلكتْ للغور من رمل عالج *** فقولا لها ليس الطريق هنالك
تناقص عدد السيارات العاملة على الطريق بفعل قلة الزبناء و تهالك السيارات، و أصبح الناقلون نحو نواكشوط لايزيدون على عدد أصابع اليد الواحدة، زادت هذه الوضعية من معاناة المسافرين فقد أصبحت السيارة تحمل جميع الكائنات البشرية وغير البشرية..أي أن فيها من كل زوجين اثنين من الضأن اثنين ومن المعز اثنين...، ولعل طلعة الأديب الراحل الطيب بن ديد- والتى سنكتفى بمقطعها الأخير- هي الأكثر تعبيرا عن معاناة المسافرين في تلك الفترة:

لاه ايديركْ فــُــــوكْ الكبيونْ ***اللـُّــورَ كيـــــفْ اللِّ مَحبوسْ
ألاِه بيــــكْ الدوسْ أَعيْجُونْ*** ألاه بيــــــــكْ الحُمَّانْ الدوسْ
ألا تِسلكْ مِنْ عَجنتْ بَيدونْ *** ألا تِسلكْ منْ هَـــزتْ سَكوسْ
ألاتسلْك من كـَـــــهْل ابْدبشُ *** لاه بيهْ اكِتـَّــــــــــكْ حَابوسْ
ألا تِسْلك مِن نَطحِتْ كبشُ *** ألا تسلكْ منْ نطحِتْ عتروسْ
وقد عايشنا هذه الفترة الصعبة التي برهن فيها الناقلون والمنقولون على قوة تحمل وصبر نادرين، حيث اعتمدوا على التضامن والتفهم والمساعدة في ما بينهم ، فإذا تعطلت إحدى السيارات مثلا ترابط بجانبها الأخريات ،حتى يتغلب السائقون الميكانيكيون على الخلل دون أي ملل أو ضجر من الركاب..

كما أن جو المزاح السائد طيلة الرحلات يخفف على المسافرين من وعثاء السفر ومن أشهر ظرفاء "الشفيرات" السيد احميدُ بن عبدالرحمان فدائما يطالعك زبناؤه بنكته الطريفة ذات المسحة الإيكيدية، فقد أشعر مرة بدخول "شفير جديد" إلى مهنة المتاعب و لعلمه بأنه لم يمر بالمراحل الإعتيادية (اتبرنيتْ) التى تعود السائق مستقبلا على الصبر والتحمل بادره قائلا : مرحبا بك في عالمنا لكن انتبه فستترك القواعد الصحية المعروفة كتغدى تمدى وتعشى تمشى..

و مما يجدر التنببه إليه تسجيل السائق ابراهيم الملقب لكهيل بنفسه لأسماء المسافرين معه في كل رحلة ووظائفهم ، ولو حفظت تلك الدفاتر لشكلت اليوم مادة بحثية هامة..

أما في ما يخص القرى المجاورة للمذرذرة فقد حاولت كل منها أن تجد حلا للتواصل مع المقاطعة، فهكذا انتدب السيد عبد الله بن إسحاق لتامين ربط قرية الدوشلي بالمدن الحيوية كروصو وانواكشوط..

كما ربطت سيارة مامون الشهيرة بين ابير التورس وانهكاره و نواكشوط..

إذا سلكتْ أجارع ذى سبيل *** فليس إلى التواصل من سبيل..
ومن أطرف ما يروى أن الشيخ التاه بن سيد رحمه الله سافر فيها مرة إلى ابير التورس وعنده نعجة، وفي بعض الطريق انضم إليهم راكب ثقيل فجلس على النعجة. فسأله الشيخ عن وجهته فذكر له أنه يقصد المذرذرة فقال له الشيخ إن النعجة لن تتعدى ابير التورس فضحك المسافرون وغير الرجل من جلسته..

وتت مامون الطبع أجناس*** حد اركبه ماه محظور
ما تبلز عيـــنيه فى الناس *** وبلاحس أتمش بشور
كما أوكل أهل التاكلالت نقلهم العمومي للسيد ول الديدْ بن بتاره فقام به أحسن قيام. حيث ربط البتراء بالعاصمة من جهة ومن جهة أخرى بالجابر واجويهل وباظ وبقاس..

يارب ليل لدى البتراء مغبوطا *** شربت كأسا به بالراح مخلوطا
وبت أذرى دموع العين معتسفا *** أرضا من الشوق والأحزان لم توطا
و لا بد أن نذكر هنا بسيارة خصوصية كان صاحبها السفير محمدفال بن البنانى الملقب (امفال) رحمه الله يضعها تحت تصرف سكان حيه في حلهم وترحالهم وهي التي خاطبها العلامة ألمين بن سيد بقوله:

مايشطنِّ كرب التحوالْ*** ولا بعــــــدُ زاد املِّ
محـــــدَّ عـــالم بـــمَّفالْ *** والوتَّ تمش واتولِّ
هو ش متـــعدل ينكالْ *** هو لاش أثـــر مخلِّ
كما تولى المرحوم تياه بن أحمدو مهمة فك العزلة عن عدد من القرى من بينها أبكاك وانيفرار وانيكنن . وكان سيدا خلوقا بشوشا وقد سهر لمدة طويلة على ربط تلك التجمعات الريفية بالمقاطعة الرسمية وكان ذلك الخط مزدهرا في فترة السبعينات و الثمانينات، نظرا لوجود العديد من رجالات تلك الأحياء في السنغال وكذلك لوجود تواصل دائم بين أفراد الجالية المقيمة في المذرذرة مع الحي، إضافة طبعا إلى أسفار التلاميذ الذين يتابعون دراستهم في المذرذرة وروصو ، كما أن جودة خدمات مستوصف المذرذرة آنذاك كانت تدفع بالمرضى إلى تفضيل المذرذرة على غيرها، و لاتزال معالم طريق سيارة تياه قائمة حتى اليوم..

هاج عرفان داثرات المغانى *** بالسيالات من قفا انبيكان
فالعليا فريعة النصف فالبكص *** إلى الجلهتين من أككان
فالمساديغ أوحشت فمــــغانى *** البير من عن يمين ذى الصوان
تولى العديد من السائقين خلافة تياه في مهمة ربط التواصل بين انيفرار والمناطق المجاورة له، كمعطا الإيجيجبى وسيد أحمد بن مشال... و إلى ذلك يشير العلامة عبد الله بن مناح في أبياته الشهيرة:

مضى زمن تياه فيـــه وقد مشى *** على رغمنا والله يفعل ما يشا
ومن بعده جاءت من الدهر برهة *** تخلــــلها معطا بطيء إذا مشا
ومن فـــــــضل مولانا علينا وجــــوده *** لنا قيض المنمى إلى جده مشا
و بعد تتابع سنين الجفاف هجر البعض الريف إلى المدن، وبقيت بضع قرى تعانى من ندرة السيارات ، وقد اضطر المتشبثون بالأرض إلى تغيير مادة عرفية هامة من دستورهم الاجتماعي، كانت تحدد أوقات نهي الرجال عن السفر ، حيث أفتى القاضي أحمد سالم بن سيد محمد الرجالَ بجواز مغادرة الحي في أي وقت ، وانتهاز فرص مرور السيارات فقال:

يالعرف أعرف ينت *** عنك فيك اطر ش
حــــد الا ر وت *** يركــــــب فيه . يــمش
في ختام هذه العجالة أود أن أؤكد أن ما كتبته لا يمثل عشر المعشار من تاريخ طريق "المذرذرة ـ تكند" الحافل بالأدب والشعر والملح والنكت و أخلاق الرجال. .فقد ذللتها الرجال بالهشيم و الأعشاب قبل أن أولد، وغاب عنى بعد ذلك كثير من أخبارها ونكتها خصوصا بعد تركى لمسقط رأسى بسبب إكراهات الدراسة والعمل..

و أطالب من هذا المنبر بتكريم السائقين المتميزين وخصوصا منهم من صبروا ورابطوا على طريق المذرذرة ـ تكند في ظروف صعبة ، حيث كانوا بمثابة صمام أمان مكن المذرذرة من تجاوز العديد من الصعوبات والعراقيل كانت كفيلة بجعلها مدينة مهجورة ومنسية إلى الأبد..

مصدر المعلومات
مقابلة هامة مع المؤرخ علي بن الصبار في منزله بالمذرذرة يوم 25 اغشت 2014
مقابلة عبر الهاتف مع الأديب سيدات حفيد السائق انجاي بصك بتاريخ 11 شتمبر 2014
أمدنا السيد محمدن بن مامون مشكورا بصورة نادرة لسيارة والده وكذلك بالشعر الذى مدح به

بقلم يعقوب بن عبد الله بن أبــــن

تابعونا على الشبكات الاجتماعية