تطرح الجولة التي قام بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى كل من الجزائر وموريتانيا ومالي والسنغال في خمسة أيام باستثناء المغرب، عدة أسئلة حول الأهداف المستترة لتركيا في المنطقة، خصوصا بعد الجولة المماثلة التي قام بها إلى كل من السودان وتشاد وتونس في الفترة ما بين 24 و27 من شهر ديسمبر عام 2017.
.هل المحدد الاقتصادي هو الدافع الأساسي الوحيد لتوجيه بوصلة تركيا نحو أفريقيا من بوابة الشمال والغرب؟
الواقع يقول إن الأيديولوجيا والتمدد السياسي لهما الثقل الأكبر في تحرك أردوغان، أما الاقتصاد والاستثمار فيمكن اعتبارهما الغطاء لتمرير الأجندات، وصناعة التحالفات التي تريدها أنقرة إقليميا أو دوليا.
الحقيقة أن أردوغان يأمل في إحياء إمبراطورية العثمانيين، يماثل وينازل بها ما تحلم به إيران في منطقة الشرق الأوسط وبعض دول أفريقيا، ولهذا السبب تنافس تركيا على النفوذ داخل الجغرافيات الممتدة من الشرق الأوسط إلى شمال وغرب ووسط أفريقيا.
وتريد تركيا أولا تحييد أي تواجد لجماعة فتح الله غولن في هذه المناطق، وتجريف كل وجود تجاري أو ديني لها ولا يهم الثمن الذي يقدمه أردوغان في هذا السبيل.
وهذا ما أكده الكثير من المحللين الأتراك المدافعين عن هذه الأجندة بقولهم إن مهمتنا في أفريقيا، تنبني على أساسين، أولا إنهاء ما أسموه “تحريضات منظمة غولن الإرهابية”، وثانيا إحياء وإعادة إنشاء القارة من جديد.
وهذا التوجه يشمل في بعده الاستراتيجي إيجاد منفذ ومستقر على المحيط الأطلسي، عبر بوابة موريتانيا وذلك من خلال بناء قاعدة عسكرية وموانئ تتحكم في تسييرها وتدبير الخدمات الملحقة بها.
تحرك تركيا في تجاه دول شمال وغرب أفريقيا ليس الهدف الجوهري منه محاصرة جماعة “الخدمة” التابعة لغولن خصم أردوغان فقط، بل المسألة أعمق وأدق في سياقاتها الجيوسياسية التي تمر بها المنطقة، فالضعف الاقتصادي والسياسي الذي تعيشه الجزائر وموريتانيا يعد مدخلا أساسيا لتواجد أنقرة بالمنطقة والأجندة الخفية على ما يبدو محاصرة توجهات المغرب نحو عمقه الأفريقي.
وعلى اعتبار أن الحكومة الموريتانية قد أوقفت أنشطة جماعة فتح الله غولن، ومنها عمل مدارس “برج العلم”، في حين توافقت الجزائر مع سلطات أنقرة بخصوص المراقبة اللصيقة لأي تحرك لذراع الجماعة التجاري والثقافي، في مقابل ضخ أموال استثمارية في مشاريع تعجز الخزينة الجزائرية عن تمويلها.
وهذا ينذر بأن النفوذ التركي لم يعد محدودا جغرافيا وسياسيا ودبلوماسيا، بل إن تركيا تسعى إلى تعميقه عبر استغلال العامل الاقتصادي لنشر نموذجها السياسي الإسلامي.
لا شك أن تمكين تركيا من موقع قدم على الساحة العربية والأفريقية مخطط كبير عنوانه الاقتصاد ومضمونه تقوية موقفها التفاوضي على طاولات المساومات الجارية بين روسيا والولايات المتحدة وإيران وإسرائيل.
المعروف أن الجزائر كانت إيالة تابعة للعاصمة إسطنبول ومنها كان يستمد البايات والباشاوات توجهاتهم، والتاريخ حاضر بقوة في الأجندة الأردوغانية لتحديد مصالح بلاده ومراكز نفوذها من الشرق الأوسط حتى الحدود الشرقية للمغرب، وتريد أنقرة منافسة المملكة المغربية بضم حليفي المغرب التاريخيين والروحيين السنغال ومالي.
وتحوم شكوك ملحة حول تحالفات ممكنة بين تل أبيب وأنقرة للتوغل داخل القارة السمراء ومحاصرة مصالح المغرب بشكل خاص، وذلك للعلاقات الوثيقة بين إسرائيل وتركيا على عدة مستويات يتداخل فيها السياسي بالأمني والاستخباري مع الاقتصادي والدبلوماسي.
وندرك أن هناك توترا مكتوما بين أنقرة والرباط نظرا للسياسة التي اتبعتها السلطات المغربية ضد توغل الشركات التركية بالمغرب، فكما أن الرباط تنبهت إلى أن مدارس “الخدمة” لفتح الله غولن بمثابة استراتيجية هادئة لاختراق المجتمع والمؤسسات، فقد توصلت إلى أن نفس الشيء أرادته أنقرة من خلال بوابة التجارة.
وكان رد الأتراك على الرباط جاهزا من الجارة الشرقية، باعتبار “الجزائر جزيرة استقرار سياسي واقتصادي في منطقة البحر المتوسط وأفريقيا هي شريكنا التجاري الأول في أفريقيا”.
الجزائر ونواكشوط يمكن أن تكونا معا، لاعتبارات سياسية وتجارية ونفسية متداخلة تحكمت في علاقاتهما المتوترة مع المغرب، حصان طروادة لترسيخ نفوذ تركيا في المنطقة الإفريقية، وتمكينها من استعادة ما كان يعرف تاريخيا بالإمبراطورية العثمانية.
والأكيد أن أربع ساعات قضاها أردوغان مع الرئيس الموريتاني محمد ولد عبدالعزيز الأربعاء 28 فبراير، كافية لضبط مؤقت ساعة العاصمة نواكشوط على توقيت أنقرة، إذا أخذنا بعين الاعتبار حاجة نظام ولد عبدالعزيز إلى دعم تركيا ضد خصومه الإسلاميين لأجل الاستمرار في السلطة من بعد منتصف عام 2019 موعد انتهاء مهامه الرئاسية.
عودة المغرب إلى الاتحاد الأفريقي وتقديم رؤيته العملية والإجرائية لتنمية القارة التي تعد تاريخيا وجغرافيا عمقه الاستراتيجي، هي خطوة استراتيجية لكشف ومحاصرة اختراق تركيا للمنطقة بعدما جعلت نفسها بمثابة المنقذ لأفريقيا من بوابتي التجارة والإسلام.
تواجد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في المنطقة تحكمه عدة قواسم مشتركة مع دول داعمة له تسعى إلى تمكينها من ثروات أفريقيا بالتمدد دبلوماسيا وسياسيا داخل دول جنوب الصحراء، وترويجه لمعادلة الأمن والاستقرار ومحاربة الإرهاب باستغلال جماعات الإسلام السياسي، عبر ما يمكن تسميته بالأيديولوجية الأردوغانية ضد حركة فتح الله غولن بالقارة السمراء التي اعتمدت على التعليم والتجارة كمدخل لوجودها وتواجدها.
بعد إغلاق مدارس فتح الله غولن في كل من موريتانيا وتشاد وغامبيا وغينيا ونيجيريا والسنغال والصومال، وإشراف مؤسسة معارف التركية عليها، تشجعت أنقرة في الانتقال إلى سرعة أخرى في الإغراءات والضغوطات عبر ذراعها “وكالة التعاون والتنسيق التركية (تيكا)”، لتمكينها من التأثير على أصحاب القرار بهذه البلدان وذلك لتوسيع مشاريعها السياسية والاقتصادية.
ورغم التسويق الإعلامي الذي رافق وصول أردوغان إلى كل من الجزائر ونواكشوط ومالي والسنغال، ونظرا لتجربتها التدخلية في ملفات الشرق الأوسط وبالخصوص في الملف السوري، لا يمكن التعويل على أنقرة لتحقيق تنمية بهذه البلدان أو وقف بعض التوترات في دول جنوب الصحراء.
وما القاعدة العسكرية التي دشنتها تركيا مؤخرا في الصومال إلا دليل على أن سياسة أنقـرة في أفريقيا لا تعـدو إلا أن تكون تدخلية في الشؤون السيادية بامتياز، تحت عنوان التجارة والتنمية تعزيزا لنفوذها.
العرب