وهو يتجول هكذا.. ذات مصادفة - ويصر من البداية أنها مصادفة !!- بين الآثار التاريخية في إحدى المدن البعيدة، طلب منه سائحان غربيان مسنان، كانا غير بعيد منه - سيتضح لاحقا أنهما فرنسيان يقضيان ربع الساعة الأخير من العمر في التجوال والسياحة في ملكوت الله - أن يلتقط لهما صورة تجمعهما في أحد معالم المدينة.
.وكان ذلك داعيا للتعارف وربما الصداقة، بمعايير عصرنا السطحي السريع، خاصة أنهما في البداية وجها له الكلام بالانكليزية، وعندما سلمهما المصورة، وطلب منهما التأكد من زوايا التصوير ومدى توفيقه في التعبير عن المشهد كما أراداه، سمعهما.. وقد بدءا يتفحصان اللقطة يتمتمان بالفرنسية، فــ "حرك بيه معهم الدم".
ولا تسأل عن فرنسي وجد أحد رعايا إمبراطورية آبائه وأجداده، السابقين حتى لا أقول "المجمبرين".. خاصة أن اللقاء تم في غير مظانه، بعيدا عن سماء الإمبراطورية الفرنسية العتيدة.
طوف بهم الحديث إلى كل شيء ولا شيء.. تحدثوا عن موريتانيا و المغرب والجزائر والصحراء والبوليساريو، ويبدو أن السائحين، قدما لتوهما من المغرب، حيث عاشا ذكرى أحد الأحداث التي ترتبط بقضية الصحراء الغربية، وكان لدى الرجل، وهو مهندس إنشاءات وجسور متقاعد، لم تحتل السياسة قبلا أيا من اهتماماته، أحرى قضية بعيدة عنه جغرافيا، بعض اللبس بل قل الكثير من الاستشكالات بشأن ملف الصحراء، وأطراف النزاع حوله.. ولم ينجح صاحبنا كثيرا في تبديد تلك الاستشكالات التي تساور هذا السائح بهذا الخصوص، فقد خلص، وبعد أن أنهى صاحبنا نحو سبع دقائق من الشروح السريعة المركزة والمبسطة ما استطاع، في آن واحد، خلص إلى أن الأمر معقد جدا بالنسبة لمن ينظر إليه من فرنسا، ولكن هذا في الواقع ليس هو الموضوع هنا..
في خضم الحديث سألتنه السيدة هل أنت سائح..؟
فرد صاحبنا بسرعة مستحضرا خلفية نظرتنا البدوية التي تقرن بين السياحة و" فروغ الشغل": أبدا..
ثم أضاف: أنا فقط وجدت لدي يومين بدون عمل، فقررت الذهاب لهذه الزيارة..
فقالت له، كمن يضبط مفهوما علميا دقيقا:
إذن فأنت سائح ليومين.
قالتها.. وقد ضغطت على كلماتها، كما اعتادت أن تفعل، وهي تعلن للمسافرين المواعيد الدقيقة جدا، لرحلات القطار التي كانت تعمل بشركتها، لمدة عقود، قبل أن تتقاعد..
هذان السائحان أحيلا للتقاعد، منذ سنوات ومنذ ذلك الحين وهما "على جناح سفر" وفق خارطة طريق سنوية، يزوران فيها كل مرة بلدانا جديدة، ثم يعودان سالمين إلى قواعدهما للالتقاط الأنفاس، قبل أن يطيرا مجددا.
سألهما عن حال الأولاد.. فقال له الرجل إنه شخصيا ليس له أولاد، والسيدة لها بنت واحدة..
المهم أن هذه البنت مشغولة جدا في مركز للعناية بالأطفال ضحايا التوحد، ولا تجد وقتا لزيارة والدتها بين سفراتها المتعددة، والأم تتفهم مشاغل البنت، لأن ما تقوم به برأيها، ربما يكون أهم من العناية بالوالدة.
وسألهما عن الأقارب وأبناء الجيرة والقرية..
قالت له هي إن السائد هو أن الكل يسعون في الأرض وفق إمكاناتهم، وظروفهم، و بما أن حياة العمل، لم تكن تترك لأحد الفرصة للحياة، بمعناها الحقيقي، فقد انتظر كثيرون سن التقاعد، لبدء حياتهم الفعلية، ولكن بعد ما فات الأوان..
ولذلك لا يجدون وقتا للعودة إلى مواطن الطفولة وأصدقاء البداية وجيران القرية..
فربما يكون هذا الجنون بالأسفار والترحال، هو نوع من محاولة تدارك ما فات، ولكنه يحدث في خريف العمر، حينما يترهل الجسم، وينحسر البصر، وتضعف الحركة.
مصادفة أخرى..
في أحد المطاعم ذات يوم جلس لأخذ قسط من الراحة والطعام، قبل مواصلة طريقه..
كان اليوم يوم عمل، ومرتادو المطعم قلة، نتيجة وجوده على حافة منطقة سياحية، لا يجد الناس عادة وقتا لزيارتها، إلا أيام العطل والأعياد..
كان " جيرانه" على الطاولة الملاصقة تقريبا، سيد ثمانيني على الأرجح، حركاته المرتعشة الواهنة تؤكد ذلك، ومعه ربة البيت، ومن أحاديثهما الممتدة والمسترسلة، خاصة مع النادل وصاحب المطعم، الذي وجد ذلك اليوم الفرصة على غير العادة لتحية كل الزبناء الموجودين بالمحل، كلفتة اهتمام تقدر من جانبه.. فهم أن لهما عدة أولاد أصغرهم على ما يبدو، فتاة تدرس في جامعة غير بعيدة من المكان، وهي التي اقترحت عليهما المجيء إلى هذا المطعم، للاستمتاع بوجباته، وقضاء بعض الوقت الممتد، الذي لا يجد متقاعدان "متقابلان" ما يملآنه به..
تناول السيد طعامه بلذة وشغف، وقام نحو الحمام، وعدل هندامه ما استطاع، وأعاد تسريح ما تبقى من الشعر، وجلس في أبهة نادرة، يحتسي مع أم الأولاد "التحلية"!!
تعمد صاحبنا إطالة مقامه قليلا في المطعم عن المعتاد، بدافع حب الاستطلاع، وبين ويين نفسه استغفر الله مرات من الاستماع لما لا يعنينه..
واختلق سببا يمنحه فرصة الحديث إلى هذا المسن، فأسقطت هاتفه النقال قرب طاولته، وقام يستعيده واعتذر عن الإزعاج، ساعيا ليكون ذلك جسرا للدخول إلى عالم هذا المتقاعد في مجتمع يختلف تماما عن مجتمعنا..
ومما ساعده في تحقيق مسعاه، دون شك، هو أن هذه الفئة العمرية، كما هو معروف، هي أحرص الناس على التواصل مع الآخرين، والحديث المسترسل دون تحفظ، ولا إحساس بعامل الزمن.
هو بالفعل أمر لا يخلو من مفارقة!
الرجل الثمانيني، كما روى لصاحبنا، متقاعد في قطاع التعليم، واعتاد أن يأتي إلى هذا المطعم ومطاعم أخرى، في منطقة إقامته، وفق قانون دقيق، أملته عليه ميزانيته الحرجة، أولا بهدف التواصل مع الآخرين، ولقضاء أوقات ممتعة بالنسبة له ولربة البيت، بعيدا عن روتين المنزل، خاصة بعد أن انتقل الأبناء إلى عوالمهم الخاصة.
وأكثر الأيام حيوية بالنسبة له، خاصة مع ندرة المناسبات الاجتماعية، هو يوم الذهاب إلى هذا المطعم، لأنه يخرجه من عالمه الصغير المعزول، فيتفاعل مع الآخرين، يتمشى قليلا في الشارع.. ثم يركب القطار بمعية رفيقته، ويمران بعدة مواقع بينها الحديقة العامة وسط المدينة، حيث " يتشمسان" لبعض الوقت، خاصة في الشتاء، ثم ينطلقان إلى محلات الفواكه والمكسرات والمجلات، يقتني هو منها ما يتيحه جيبه، ثم يتناولان الغداء في المطعم.
برنامج بطقوس مسحوبة وخاصة ومتعددة، يرتشفها بلذة، ويمططها هذا الرجل لعدة ساعات، كما كان الصغار في ميعة الطفولة الأولى، يرتشفون ما يتبقى عادة في إبريق الشاي، عندما ينصرف الكبار إلى الجامع مثلا.. تذكروا تلك اللذة، خاصة لمن يعرفونها منكم، ولكم أن تقارنوا!!
ويبدو أنه يأخذ للأمر ما يلزم.. فهذا "يوم الزينة" يستخرج فيه من خزانة ملابسه، بدلاته وربطات عنقه وقمصانه وسراويله، التي أحيلت معه منذ سنوات للتقاعد، فيختار منها كل مرة، ما يناسب الظرف المناخي.
ويجد الرأس والوجه حظهما من العناية والاهتمام، ثم تعطر المناسبة رشات خفيفة من عطر اعتاد اقتناءه منذ كان في الحياة النشطة، يضن على الأيام الأخرى باستخدامه..
بعد حديث مسترسل، قام كما يليق بمعلم مرب حريص على الإيضاح، معلنا في وقار نهاية الحصة..
وقف غير بعيد من حيث يجلس صاحب المطعم، بعد ما ناول النادل مستحقاته، ثم أثنى على الخدمة، وأوصاه جيدا بفريق العمل، وربما تصور أنه يلقي درسا على تلاميذه، سار بضع خطوات متمهلا، ثم عاد وكأنه تذكر شيئا مهما..
عاد ليؤكد لصاحب المطعم أن بنته.. سماها بالاسم، هذه المرة، هي من أوصته بالمحل، ورجاه أن يحافظ على السمعة الجيدة..
سار منطلقا وإلى جانبه قرينته تحمل له حقيبة جلدية صغيرة من النوع الذي كان يحمل فيه الأساتذة أيام زمان، كتبهم ومقرراتهم، ربما هي جزء من "أكسسوارات" المناسبة التي لا تتحقق دونها.. كامل الوصفة!!
طار ذهن صاحينا، وهو يرقب خطوات الرجل الثمانيني المتثاقلة، ورفيقته تشد أزره، وهما يبتعدان عنه رويدا رويدا..
شرد به التفكيرا بعيدا إلى ضواحي المذرذرة، حيث كان الأهالي في القرى والأرياف، يفتعلون المرض، عندما تعن لأحدهم رغبة في زيارة المدينة، والتخفف أياما من "بط المراح"، وروتين الأيام المتشابهة، وغياب التنوع في الوجبات، وكذلك يفعل أهالي المدينة، عندما يحنون إلى أجواء الدعة والهدوء في البادية، خاصة أيام الوفرة في الخريف والشتاء، فيشكون من "تيمشي" وهو عرض غامض وفضفاض، يمكن أن يجمع أشياء مختلفة، قد يكون بينها غالبا، دون شك، الملل والسعي لــ" تغيير الجو".
أما قصة الثمانيني ورفيقته وبرنامجهما المسطور، المفعم بالوصل والملازمة أو " اتفاق" فلا تعليق عليه في إكيدي، ولا ينبغي لتندغي ولا غير تندغي..
الكاتب والصحفي الكبير محمد ولد حمدو