كان قصارى أمر الأمير مطلع القرن العشرين أن ينشر العدل ويبسط الأمن في إمارته
...
وكان قصارى هم العالم أن يذب عن المسلمين ويذود عن حياض الدين في منطقته أو بين أهل قبيلته،.
لم يملك أي رجل في هذه البلاد في ذلك العهد نظرة شمولية لكل البلاد التي تعرف اليوم بموريتانيا إلا بابه بن الشيخ سيديا..
لم يشترط أي رجل على الفرنسيين شروطا تتجاوز إمارته أو قبيلته أو أسرته إلا بابه بن الشيخ سيديا، لما سألوه عن عياله الذين يريد حمايتهم قال لهم: "المسلمون كلهم عيالي"..
لم يبذل أي رجل الغالي والنفيس ويحرر الفتاوي، ويدبج الرسائل ويبعث البعوث ويسافر بنفسه ليخفف خسائر الاستعمار على المجتمع شرقا وغربا وجنوبا وشمالا إلا بابه بن الشيخ سيديا..
لم يساند أي رجل ويدعم ويهتم بالمعتقلين والمبعدين والمنفيين والمعاقبين من الأفراد والقبائل التي قاومت المستعمر من خارج قبيلته وأسرته ويتدخل ويتوسط لإطلاق سراحهم أو العفو عنهم أو تخفيف عقوبتهم أو ترحيلهم إليه وتولي استضافتهم إلا بابه بن الشيخ سيديا..
لم يثن أي رجل على المجاهد الشهيد الأمير بكار بن اسويد أحمد الذي استشهد (١٩٠٥) ويصفه بأحسن الأوصاف وأرفعها وبأنه استشهد الشهادة التي كان يتمناها ويكتب ثناءه وشهادته بشجاعة في كتاب موجه إلى الفرنسيين إلا بابه ولد الشيخ سيديا..
لم يتألم أي رجل لاغتيال الأمير المشظوفي العادل محمد المختار ولد محمد محمود ولد المحيميد الذي ناوأ الفرنسيين وقاتلهم ووصفهم بأبشع الأوصاف قائلا عن الغزو الذي قتله (١٩٠٩): إنه قتل أميرا عادلا إلا بابه بن الشيخ سيديا رغم أنه في أقصى غرب البلاد وإمارة مشظوف في أقصى شرقها..
أهكذا يا قراء التاريخ يكون العميل الذي يبيع نفسه وشرفه للمستعمر لقاء دراهم أو مناصب معينة؟
كلا! لم يكن بابه إلا إماما عالما مجتهدا لا بطلب المال، ولا يبحث عن المناصب، ولم يكن له دافع يحركه إلا حرصه على أن يحقن دماء أهل بلده، ويصالح عنهم صلحا يحفظ بيضتهم، ويحافظ لهم على كيانهم حتى يأتي الله بالفتح أو أمر من عنده، مسترشدا في ذلك بما صالح عليه المسلمون المشركين أيام ضعفهم يوم صلح الحديبية، لا يطلب بذلك إلا رضى ربه، فقد كان يشعر أنه مسؤول عن هذا البلد مهتما بما يصلحه.. لقد كان أول أب لهذه الأمة.
وإن الخلط الذي يقع فيه البعض حول بابه عندما يجري الحديث عنه وعن الاستعمار إما أن صاحبه لم يقرأ التاريخ، حتى يعرف من هو بابه، وما هو السياق الذي تحرك فيه وتصرف، وما هي أدلته الشرعية، وماذا قال عنه العلماء المعاصرون له، وإما أنه قرأه ولم يستطع وضعه في سياقه الصحيح.
لقد اتفق أهل العلم المحققون على أنه لم يوجد في بلاد البيضان مثل بابه بن الشيخ سيديا في عصره: معرفة وأدبا، ونبلا وعقلا، وحكمة وزعامة، وتبصرا وإدراكا للواقع، ومتابعة لأحوال العالم، كما لم يوجد مثله في سمو النفس، وكمال الأخلاق، وتمام العلم، والحرص على نصر الدليل في مجتمع كان يهيمن عليه التقليد، وتجديد الملة، وإحياء السنة ونشرها والعمل بها في زمان غلبت فيه الفروع حتى توفي.
فما هو إلا كما قال عنه العالم العلامة المحقق المبرز محمد فال بن بابه بن أحمد بيبه في قصيدته التي مطلعها:
((على الشيخ قد عاب الغبي بجهله
تتبع أقوال النبي وفعله
وما في كتاب الله بالنص مُحكما
وما صَحَّ من تقريرِ خاتمِ رُسـْلِه
وما قال جمهور الأئمة تــابعا
لما صح من معنى الدليل ونقلـه...)).
وكما قال عنه والدنا محنض:
((الناس عن خطرات عقلك أحجموا
ومدى نداك فأنت أنت وهم هُمُ
أبدى لك الله الشريعة والحقيـ
ـقة بالكتاب وبالدليل وهم عموا
فنظرت ما لم ينظروا وفهمت ما
لم يفهموا وعلمت ما لم يعلموا)).
ولذلك فإن مئات العلماء والأمراء وشيوخ القبائل رجعوا إلى قوله وسلموا بصواب نظره بعد سنوات من الكر والفر، وعرفوا أنه كان أبصر منهم بالشرع وأدرى بالواقع، وهو مع كل ذلك لا يزداد إلا تواضعا وانشغالا بالله تعالى ومرضاته حتى توفاه إليه.
أما العلماء الذين اجتهدوا وأفتوا بوجوب مجاهدة الاستعمار وجاهدوه واستمروا على مجاهدته حتى آخر نفس، فقد ظلوا يجلونه، ويعظمونه، ويحفظون له مكانته الدينية والعلمية السامقة، ولم يصفوه أبدا بما يصفه به الجاهلون اليوم، لإدراكهم بأن بابه أسمى من ذلك وأرفع.
فليقرأ التاريخ بكل تفاصيله من لم يقرأه، وليعد قراءته من قرأه قبل الحكم عليه.
فإنه
((بدولة حكم الجهل يُذْعِنُ عــــالمٌ
لمن يدعي علما وليس مـنَ اهلِه)).
من صفحة الكاتب الكبير الحسين ولد محنض