حملة تكريم "أبطال المقاومة الوطنية" لا إشكال فيها ولا نقاش من الناحية السياسية/الدعائية الآنية، فهي تبدو الآن "قرار سيادة" للسلطة الحاكمة!
.لكنها من الناحية التاريخية/العلمية تطرح الكثير من المشاكل والنقائض الضارة بـ"المقاومة" نفسها.
أول مشكل هو في ثنايا المصطلح نفسه: "المقاومة الوطنية"، إذ يحيل في الدراسة السياسية والتاريخية الحديثة إلى نضال الشعوب، ممثلة في حركات وأحزاب، وفي حالات نادرة أشخاص (غاندي في الهند والدلاي لاما في التبت...)، ضد قوى الاحتلال والتبعية الاستعمارية.
ويقوم هذا النضال، سواء كان عسكريا أو سلميا، على طلب تحريرِـ أو تحريرِ واستقلالِ ـ بلد من البلدان له اسم جامع وحدود جغرافية مضبوطة أو مقدرة.
ومن بدهيات "المقاومة" الوطنية ـ في كل مكان ـ أن لنضالها هدفين أساسيين هما الأرض والإنسان؛ بغض النظر عن الانتماء الاجتماعي والمعتقد الديني لذلك الإنسان. كما أن المستعمر أو المحتل هو الموصوف بـ"الأجنبي"، بغض النظر عن بلده ونظامه السياسي ودينه أو أديان مواطنيه.
مثلا: لقد اعتبرت "حركة التحرر" العربية الدولة العثمانية المسلمة "مستعمرا" يجب قتاله وإخراجه... واعتبرت "بوليساريو" كلا من موريتانيا والمغرب "مستعمرا" يجب قتاله وطرده من الصحراء الغربية؛ بما فيها "الصمارة" التي يعتبرها البعض عاصمة "المقاومة الوطنية" الموريتانية!
ولا داعي للحديث عن حركات "المقاومة الوطنية" في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وخاصة تلك اليسارية ذات الشعار الثوري "الأحمر" والتي لها تأثيرات دعائية خارج مناطقها! وعلى ذلك فمن بديهيات "المقاومة الوطنية" أيضا منع "الهجرة" من الديار "الوطنية" إلى دار أخرى. إنما يجوز، بل يجب، في عرفها "الانضمام" إلى "الرفاق" في جيوب الوطن، أو الفرِّ إلى المهجر الصديق، من أجل الكرِّ على العدو وإخراجه من الوطن.
لكن ـ مرة أخرى ـ هل كانت في موريتانيا "مقاومة وطنية"؟ أي: هل حركة الجهاد المسلح ضد النصارى الفرنسيين، كانت "مقاومة وطنية" بالأوصاف والمفاهيم السابقة، حتى يكتب أثرها ويخلد ذكرها، مثلما يكتب أثر "الرفاق" ويخلد ذكرهم؟!
كثيرون يبادرون بالقول: "لا عبرة بالألفاظ إذا علمت المقاصد"!
لكن ذلك غفلة أو تضليل عما سبق. وكأنَّ الإشكال هو فقط إيجاد وصف من بين عدة ألفاظ لحالة واحدة، أو قتال واحد!
كلا! ليس الأمر كذلك. فنحن أمام قتال آخر، قتال ينتمي للتاريخ الإسلامي المنير، قبل اختلاق الحدود ووضع القيود، وظهور "الحركات" السياسية. حين كان "الوطن" هو حيث تجد حريتك وتقيم شعائر دينك. و"الاستعمار" هو من يُشرك بالله ويكذب رسوله صلى الله عليه وسلم، حتى لو كان بعيدا منك وخارج "دار الإسلام".
ولكي لا نبتعد كثيرا... فلم أجد مَن عثر في الفتاوى والرسائل والوثائق الصادرة عن المجاهدين و"مراجعهم" من شيوخ الفقه والتصوف، تعبيرا غير"جهاد الكفار" (قتالا بالسيف أو"هجرة" عنهم)... في سبيل الله! سواء كان مصدرها من داخل حدود "موريتانيا" الحالية أو من خارجها. فقط: "جهاد في سبيل الله" أو "هجرة في سبيل الله". ولا وجود لذكر ولا مفهوم "الاستقلال" ولا "الوطنية" أو "الاستعمار" و"التحرر" بمفاهيمها المقابلة لـ"للمقاومة الوطنية"!
كما لم توجد حركة ولا قيادة موحدة ولا راية محددة، ولا تنسيق وتحالف بين أفراد المجاهدين ومجموعاتهم الصغيرة هنا أو هناك. بل كانوا متفرقين في الزمان والمكان يعمل كل منهم على شاكلته، ولكن بنفس الدوافع وذات الأهداف الدينية المحضة.
ولا غرابة أن تغيب عن أدبياتهم وغزواتهم، وقوتهم ذاتها مبادئ دنيوية/سياسية رغم شدة الحاجة إليها؛ مثل النظام وفرض الأمن والعدالة في مناطقهم على الأقل (رغم أن هذه كانت وظيفة الإمارات العريقة التي ينتمي كثيرون منهم إلى قياداتها. بل تحللوا من ذلك وتفرغوا لجهاد النصارى القليلين الموجودين!).
ولو أنهم فعلوا ذلك، أو أنه كان في تفكيرهم، لقطعوا الطريق وأقاموا الحجة على الطائفة المهادنة؛ التي رأت في النصارى شرا أخف من ضرر الفوضى والنهب والقتل والظلم!!
يقول الإمام العلامة المفسر محمد الأمين بن محمد المختار (آبَّ ولد اخطورْ) الجكني الشنقيطي، في رسالة أورد بعضها المدون النابه عبد الله ولد الشيخ سيديا في صفحته:
"مع أن المنصف حَقَّ الإنصاف يعلم أن المتغلبين المخالفين في الدين أخفُّ ضررا على المسلمين من نفس المسلمين، لأنهم وجدوا بلادا سائبة يقتتلون الليلَ والنهار بالإثم والعدوان، لا حاكم عليهم ولا زاجر لهم، وربما استمرت الحرب بين القبيلتين أكثر من أربعين سنة، مع أنه لا أمْنَ للضعيف على مالٍ ولا نفْس، فلما جاءوا أسكنوا الفتنة وأمَّنوا الطرُق وهيَّئُوا أسباب التجارات... وهذه المنافع أكثر من المَغْرم الذي يأخذون ضريبة على الحيوانات والتجارات. وأكثر البلايا والمحن لبعض المسلمين من بعض. فإنا لله وإنا إليه راجعون. وكفى المسلمين عارا أن النصارى خير منهم للمسلمين، وأنهم هم الذين يمنعونهم أن يقتل بعضهم بعضا! اللهم استرنا بسترك الجميل. وا فضيحتاه"!!
إذن فقد كان "أبطال المجاهدين" في مهمة واحدة مقدسة دينية محضة، تكاد تكون عبادة شخصية؛ أضيق وأخص من "المصالح العامة" التي ما لبثت أن تأثرت سلبا جراء ذلك؛ سواء بسبب استفزاز النصارى وتحريض قوتهم الغاشمة، أو إتاحة الفرصة للصوص وقطاع الطرق ليعيثوا فسادا في الأرض، ويتذرع بعضهم بالجهاد واستباحة دم ومال القاعدين عنه!
يقول الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيديا في صرخته الشهيرة:
حماة الدين إن الدين صارا * أسيرا للصوص وللنصارى
فإن بادرتمــوه تــــداركـوه * وإلا يسبــق السيفُ البــدارا
هذا بالنسبة لحركة الجهاد أو "المقاومة" قبل ظهور بشارات الدولة الوطنية، ثم الاستقلال... والتي لم تتبلور إلا بعد منتصف الخمسينيات.
ومن المعروف أن هذه الحركة الجهادية، سواء كانت قتالا أو هجرة، قد عارضها تيار قوي، واسع الانتشار ـ يبدو الآن مستهدَفا، برعاية السلطة ـ رأى مهادنة الفرنسيين والتعاون معهم على أسس اجتهادية أهمها:
* احترامهم للدين وعدم التعرض لعقائد الناس وأعرافهم وهوياتهم.
* استعدادهم ومقدرتهم على بسط الأمن وفرض النظام، ووقف الظلم والنهب الذي يتعرض له الناس في مختلف أنحاء البلاد
* العجز عن مجابهتهم وهزيمتهم بسبب عدم القدرة على حشد قوة تقارب قوتهم؛ من حيث السلاح والتدريب والقيادة...
ومع اتضاح هذه الأسس وشيوعها بين الناس، رجع كثير من أنصار الرأي الآخر؛ وحتى من الذين قاتلوا النصارى والذين هاجروا عنهم؛ فانخرطوا في صفوف المهادنة ومكاتبة الفرنسيين والتعاون معهم.
وبفضل جهود هذا الجناح السلمي بالذات، مع الوجود الفرنسي، أمكن التقريب والتواصل بين أنحاء البلاد، وتهيئة ساكنيها لوحدة وطنية ستسهل إلى حد كبير قيام الدولة الوطنية الموحدة بعد عقود قليلة، من أجل الاستقلال الوطني في النهاية.
وفي ظل إرهاصات قيام الدولة الوطنية، وبعد قيامها، بدأ تاريخ جديد فيه فعلا مكانة لما يسمى بـ"المقاومة الوطنية". ولكنها كانت مقاومة "سلمية" في الغالب (باستثناء بعض عمليات حزب النهضة).
فشهداء حرب الصحراء، ومناضلو الكادحين والناصريين... هؤلاء مسلمون كانوا يقاومون من أجل الوطن، فهم بالنسبة لنا جميعا شهداء من أجل الوطن؛ يكرمهم ذوو المرجعية الجهادية الإسلامية بالدعاء لهم وتدريس سيرتهم ورعاية أبنائهم وذويهم ويشار إليهم بالأعلام الخضراء (لباس أهل الجنة أخضر والعلم الوطني أخضر)؛ ويكرمهم ذوو المرجعية النضالية اليسارية بالوقوف دقيقة صمت وبتدريس سيرتهم ورعاية أبنائهم وذويهم ويشار إليهم بالأعلام الحمراء!
ولتنظر السلطة حسب أي المرجعيتين تختار وسائلها؟ لكن من الأحرى بها ألا تقفز فوق ما اتفقتا عليه، وهو تدريس سيرتهم ورعاية أبنائهم وذويهم!
ولكن إذا افترضنا أن الأمر يتعلق بإعادة كتابة التاريخ، فلمَ نستبق النتائج بهذه الإجراءات العملية الأحادية، مثل تغيير رموز الدولة؛ وما يرافقها اليوم من تحريك النعرات العنصرية والجهوية، وبعث خلافات ونزاعات وذكريات حروب مؤلمة... فضلا عن تعميق الخلافات السياسية على الساحة الآنية...؟؟!!
هذه مشاكل ومعوقات مبدئية، كافية لصرف كل من يشعر بالمسئولية ويقدرها، عن الخوض في تفاصيل هذا التاريخ الشائك، فضلا عن اتخاذ مواقف عملية منه، وسط خلاف معقد!.
أما بالنسبة للمؤرخين والباحثين من ذوي العلم والباع والاختصاص، فسيجدون أمامهم عقبات أخرى موضوعية تتعلق بقلة المراجع والمصادر الموثوقة لرواية هذا التاريخ وتحليل أحداثه. فمع رحيل الأجيال التي كانت تروي بعضه، بطرق يمكن الاستئناس ببعضها، لم يبق غير المراجع الفرنسية، التي ستكون في هذه الحالة هي "الخصم والحكم"!!
ومع الأسف فإن من يعتمدون اليوم عليها من غير المتخصصين، يأخذون بمكيالين مختلفين؛ فيجتزئون ما يعجبهم ويهملون خلافه، في القصة الواحدة، بل في السياق الواحد المرتبط... بدون تمحيص ولا أمانة علمية طبعا.
**
بقي الجانب السياسي "الخاص" الذي يبدو أنه هو محرك هذا "الاكتشاف النضالي"، الذي فات أنظمة وسياسيين وحركات، من مختلف الاتجاهات، طوال أكثر من نصف قرن من الزمن "الوطني"!
ذلك الجانب بكل بساطة هو "عقدة" العسكريين المستمرة من المؤسسين المدنيين لهذه الدولة وعلى رأسهم المختار ولد داداه الذي أطاحوا به ولم يفلحوا في حفظ مشروع الدولة الذي قاد القائمين به... فضلا عن الإتيان بأفضل منه!!
بقلم: م محفوظ ولد احمد
اقلام