أعجب لحزب معارض كبير ومحترم مثل حزب (تكتل القوى الديمقراطية) يجهد خبراءه لإنجاز وثيقة رصينة ودقيقة للتدليل على سوء الأوضاع في هذا البلد تحت حكم النظام العسكري ـ المنتخب الحالي.
.بينما لا يحتاج الأمر إلى أي جهد ليصل إلى تلك الحقائق، بل يكفي أيا كان أن يسأل أي مواطن متواضع المعارف والفهم أو ليسير خلال الأحياء والقرى ليكتشف مدى فداحة الوضع المزري والمقزز الذي وصلته حالة الموريتانيين معيشيا وسكنيا و تعليميا وأخلاقيا.
إن الرداءة الشاملة لا تحتاج جدل حزبي يدعمها بالحقائق والأرقام للتدليل على انهيار الوضع الاقتصادي في موريتانيا.
كل الأنظمة العسكرية المتعاقبة على الحكم في هذا البلد تحرص على الأرقام والإحصاءات عن النمو؟ لكنها لا تستطيع الجواب عن السؤال البديهي: أين ذهبت أموالنا التي صرفت أخيرا والتي تجاوزت 7000 آلاف مليار أوقية؟ أين المساكن و أين المجاري وأين المياه و أين الساحات التي يتنفس فيها الناس ليتخففوا من أحزانهم وما أكثرها هذه الأيام؟...
أنفق النظام الحالي من سنة 2008 إلى يوم الناس هذا آلاف الملايين من الأوقية والنتيجة لا تحتاج إلى أرقام ولا إلى إحصاءات إنها ماثلة للعيان يقرؤها الأمي والقارئ مثل كلمة "كفر بين عيني الدجال": الرداءة السياسية والفكرية والمؤسسية والقبح والسوء الذي يعمر كل شيئ من الطرق المغبرة القذرة إلى السياسات الخاطئة التي تلف الناس والأشياء.
في هذه البلاد شعب يعيش في مستنقع وبيئ من المجاري والقاذورات والمزابل والأغذية الفاسدة والأدوية القاتلة، وتنتشر خلاله السلوكات الخاطئة والكارثية من المخدرات إلى البغاء إلى الجريمة المنظمة.
ملايين من البشر يلتحفون السماء ويفترشون الغبراء أو يفيئون إلى الأعرشة و بيوت الطين وقد يموتون من شدة الحر ويتساقطون تحت الشجر كل سنة في مشاهد تدمي القلب و تؤلم النفس وتشعر بالمرارة والغضب. أمأ أن ينال المواطنون المهمشون في الدواخل قليلا من مال الله الذي أعطاهم وليفيدوا من شمسهم الحارقة شيئا يحفظ طعامهم ويسقيهم ماء باردا في حر جهنم، فهي أمور لا يفكر فيها مثل هكذا نظام.
يحدث ذلك لأنه لا أحد في هذا النظام يهتم أو يسمح أو يريد أو يساعد على إسكان المواطنين بأي شكل من الأشكال، بل يحرص النظام الحالي على عدم حل أي مشكل للإسكان لا للموظفين ولا للعمال ولا للفقراء، لا شراء ولا دعما ولا حتى استجداء لأي مساعدة من العرب أو العجم الذين مُنعوا بكل السبل من بناء طوبة واحدة يمكن أن تغير من مشهد القبح والخصاص في ميدان الإسكان في طول البلاد وعرضها، والأدهى والأمر إن النظام يحرص على منع مواطنيه من أي تصرف يحل مشكلة السكن، وسياسات توزيع القطع الأرضية المنقطعة والرديئة، معروفة للجامعيين والقضاة وغيرهم، أما أن يقوم ببناء مساكن لهؤلاء بأي طريقة كانت فهذا من رابع المستحيلات. ولذلك أقلعت ساحات العمران والإسكان في دول إفريقيا الجارة والبعيدة، وتحولت مراكزها العمرانية إلى شيئ مبهر للعين والنفس، بينما يظل حال وسط انواكشوط مركزا للقاذورات والمجاري بعد 60 سنة على الاستقلال و10 سنوات على الانقلاب المشؤوم 2005.
الطب العام والخاص أصبحا مسلخة حقيقية يتم فيها العبث بصحة المواطنين، لتتحول إلى مساكن فاخرة وسيارات فارهات تملكها وجوه عابسة متجهمة على الدوام، لا تخشى حسابا ولا رقابة ولا نقدا.
أما القضاء فقد صار كهفا للظلم والقمع والرشوة، ليس في نهايته قبس من ضياء ولا بصيص من نور.
ولذلك لم يعد أحد يخشى شيئا، لا شرْعة ولا قانونا، بل يفعل ما يشاء في الأعراض والدماء والأموال.
لا توجد مؤسسة أو هيئة علمية أو اقتصادية أو اجتماعية فيها الحد الأدنى من الصدقية والمعايير الدنيا التي يعرفها العالم في زواياه الأربع.
مؤسسات عمومية منهارة تعمرها جماعات التخابر والنميمة والنفاق والارتزاق ويسودها مناخ لم يعرف في تاريخ البلاد من السيبة التربوية والعلمية والإدارية فالكل مدرس وأستاذ ولا قيمة لمرتبة ولا كفاءة ولا خلق ولا مسؤولية بل يتم اكتتاب مسيري المؤسسات وفق مساطر إدارية فجة ووقحة ومن دون أي اعتبار لأية معايير علمية وأكاديمية وبحثية.
أما الطلبة فيدرسون كل شيئ إلا ما يختصون فيه وقد يتلقون معارف متجاوزة علميا أو خاطئة ابتداء.
يجري ذلك تحت سمع وبصر النظام وعصابته التي تحصي على المواطنين أنفاسهم وكأنهم أعداء لبلدهم، أي لوطنهم!
موت السياسة
قتل هذا النظام السياسة بعد أن صادر نهائيا الحقل السياسي وجعل اللعبة بلا معنى؛ تغيّر الساسة أو لم يتغيروا، واستخدم في سبيل ذلك كل الترسانة القانونية والمالية والإدارية التي يديرها بلا حساب.
اغتيال الحلم
لم يعد الموريتانيون يحتاجون إلى دليل على سوء حالهم، لكنهم لم يكتشفوا بعد فداحة الوضع الذي وصلتهم دولتهم كمشروع وطني تم اغتياله بكل بساطة، ما يعني ببساطة موت الحلم الوطني.
نظام يخاف الإصلاح ويخشى العدل ولا يمتلك أي إرادة لفرض هيبة القانون والصالح العام.
ولذلك سادت حالة من التحلل والترهل والانهيار: ضياع هيبة الدولة، انهيار القيم الجماعية، موت العلم والتربية، بفعل الحملة المادية والمعنوية التي يشنها النظام بكل وقاحة عبر أجهزته الخفية والعلنية على القيم والأخلاق وفي طليعتها قيمة الكفاءة والعلم والمعرفة، لأنه عدو لكل أولئك بامتياز، بينما يشجع القيم المناقضة من نفاق وارتزاق وجهل وكراهية ونميمة وفساد، ما زرع روحا خبيثة خلال المجتمع بدأت تسري في أوصاله فأورثته ذلا ومهانة وخضوعا وخنوعا سيجعله فريسة للهزيمة أمام أي عدو خارجي أو داخلي وهي أفدح عواقب السياسات الظالمة والفاسدة لهذا النظام الذي لا يخفي احتقاره للمجتمع برمته وسعيه إلى تجسيد ذلك حتى في قابل الأيام وفق أجندة تمكينية شخصية يجري تنفيذها تدريجيا!
ولله الأمر من قبل ومن بعد