لقد كتبت هذه الخواطر الدامعة قبل فترة ـ أظنها بمناسبة الذكرى الخامسة لوفاة المرحوم جمال ولد الحسن رحمه الله ـ ولأن كل ما يكتب عن هذا الفقيد سيبقى دون المستوى اللائق بمكانته الفذة، فقد آثرت عدم نشرها. فأن نصمت خير من أن نتفوه بلغو من القول... إلى أن قرأها بالصدفة أحد الإخوة، و أنا أرتب بعض الأوراق ، فاستحسنها من قبيل عين الرضا... و ما زال بي حتى أقنعني بنشرها. فها هي ذي بضاعة مزجاة على قدر مهديها لا على قدر مهداها. رحمه الله رحمة واسعة.
.
إن من الرجال لخيولا، عقد الخير والجمال والعلم والأدب بنواصيها، فهي تعلو، ولا سفح لمرتفع المعالي الشامخة في تفردها.
ما من شيء يمكنه رثاءُ الخيول، فالخيولُ كائناتٌ سماوية، يبقى وقعها سينفونية الكون الأجمل، حتى وهي تترجلُ تاركة السروج والفرسان، الأهل والأحباب، الديار والمضمار.
قبل سنين رحل جمال ولد الحسن فجأة، كما ترحلُ الأزهار والورود، تاركة العطر والذكرى وحزن البساتين، وكما تنطفئ الشموع سريعا في الصحراء تاركة الظلام الدامس و كما يرحل الحبيب عن حبيبه تاركا وراءه الحيرة والألم والدموع والفجيعة والبؤس والخسران، وحشرجة الحروف المخنوقة، لأن هذه الحروف تيتمت لحظة رحيلك... وأنت الرقم الصعب في ملحمة السيرة العطرة لهؤلاء الأماجد الذين آثروا الانزواء صمتا و مكانا و قد آثارهم الزمان بمجد توارثوه منذ عهد قريش الأوائل إلى رحلة جهاد الإمام الأكبر "ناصر الدين" (طيب الله ثراه)، إلى الآن حيث تشمخُ قامات العلم والأدب والصلاح، ويرفعُ شيوخ الضاد والصلاة شأن العباد والبلاد.
ما الذي يمكن أن أخطه عنك من حروف.. منذ يوم لقائنا الأول بالمغرب، وإلى هذه اللحظة التي مضت فيها كل تلك الفترة على رحيلك، وعلى بلوغ الفجيعة سن التصرف الواعي... وأنا عاجز عن كتابة حرف واحد يوفيك حقك.. وهيهات أن توفيك حقك هذه الحروف النحيلة المحبرة بدمع الحزن، والشعور بخسارة قطرية لن تعوض.
هل أتحدث عن جمال الشاعر، أم العالم، أم المفكر والفيلسوف، أم الأستاذ، أم الأديب، أم "الأديب" الخلوق، أم العبقريّ الذي تنساق له المعارف والعلوم، أم ذلك الإنسان "البيظاني" الفطري العميق الرائع، الصقيل النفس والبدن، الباذخ القيم، الفاتن الأنسة.. الجامع لأبهة المعرفة والشاعرية والخلق.
يا سيدي.. لقد خسر فيك البلد بل القطر برمته أمة.. وهذا يشبه أن تخسر بلاد نهرا، فمصيرها إلى تيه العطش، وارتواء الفراغ.
إني لمحرج - يا سيدي- من تعذيب هذه الحروف الثكلى وتحفيز ذاكرتها الكربلائية منذ رحيلك.. فأنا رجلٌ بسيط لكنني دائما أشعرُ بحزن الحبر حين يعجزُ أن يزن بكل حروفه ذكرى الأكابر الذين يرحلون كالضوء والغيم والفراشات…و لا يعوضون.
حين يتعلق الأمر بجمال ولد الحسن فإن الذكريات تحضرُ دون استدعاء و لا تكلف.. وفي يوم 17 مايو من كل عام، أضع يدي في دائرة مسبحتي، وأطل من النافذة، وأفكرُ في يوم حبر، وكيف يمكنني أن أعيد جمع غبار معركة بدر لأصنع منه محبرة طاهرة فأكتبُ عنك؟!..
أخشى أنني أدفعُ الأفق للتصوف، لكن السمة الفنائية للطين تعيدني إلى الحقيقية المرة.. لولا أن للربانيين خلود النور بما كسبوه من صلاة وحب في الله.
لا سلطان على الذكريات... وحين نتعتبُ معا دار آل ببانا في المغرب الأبلج، أو أي مكان آخر في الوطنين التوأمين، حتى في الديار والمرابع والمنازل، أشعرُ أنني بحاجة إلى تعاز كثيرة: للشعر والأدب والعلم والتقوى وحسن المعشر، النبوغ والعبقرية، الفتوة والأخوة.
لقد رفض جمال دائما أي نوع من الزهو المغفل، حتى والمنابرُ توقع له في الأفق تصفيقة الإعجاب.. لقد كان يعلمُ بصوفيته الفطرية، أنّ كل سفينة إنسان في هذه الحياة لا تبحرُ إلا في نهر دموعه، ولا تصعدُ إلى عواليَّ التحدي، وهوَ الذي عاشَ في واحدة من أقوى وأخطر المراحل التي مرت على الأمة.
كيف أرثيك... أيها النجمُ الساطعُ في غيابه... الحاضرُ في روح الغيم والضوء والحبر والذاكرة؟!
حين تسلطنَ الكلامُ هرعَ الشعراء لمبايعة القريض... وبذلك حولوا قلوب الناس إلى بلاطاتِ يسامرون فيها سلطة النخل والحلم والحافر.... أما أنا فما لي حظٌّ من ذلك غير النصيب من الصدمةِ والشعور بالعجزِ عن زحزحة جبال الهمّ التي استنبتها غيابك ورحيلك فجر يوم وددت أن شمسهُ ما لبست بياضا.. والحقيقة أن بياضها ذلك اليوم لم يكن أكثر من بياض زبد الموج وهو يطبق على الغريق.
ما أقصر حياتك وأطول ذكرك..
مع ذلك يا حبيبنا الحاضر أبدا... ما من أحد يمكنه أن ينسى جميلك للأهل والوطن والأمة مهما شقت الحياة بالناس في مدائن الريح و العبث والنكران.
تغمدك الله بواسع رحمته في رياض المقربين... فروح و ريحان و جنة نعيم.
الدكتور الشيخ المختار ولد حرمة ولد ببانا