عندما أكون بصصدد الحديث عن محمد ولد الميداح (دمباغ
رحمه الله، لا أدري من أين أبدأ و لا ما ذا أقول، ذلك لكثرة ما كان الرجل يتسم به من صفات تستحق كلها التّصدُّر ..عندها، أدركُ كم كان نزار قباني صادقا و بليغا حين قال وهو يرثي طه حسين:
لستُ أدري مِن أين أبدأ بوْحي
شجر الدّمع شاخ في أجفاني...
لقد كانت شخصية محمد تتميز بأبعاد متعددة و مواهب زاخرة ، يصعب التصدي لها و الإحاطة بها..مثلما يصعب علي انا التعبير عن أحاسيس الحزن والشجون التي تنتابني إثر فقده؛ "فاللغة مقبرة المشاعر"، كما يقول عنها أحد كبار الكُتّاب المعاصرين..
حُظيتُ- و حَظيتُ- بمعرفة دمْبَ مذْ كنا مراهقيْْن ؛ بعد ذلك ترافقنا طيلة عقود من الزمن، شهدنا خلالها تطورات و أحداثا مؤثرة و أوضاعا متبائنة... و لم تَحُلْ بيننا يومًا صروف الدهر و أطواره، و لا التنائي الجغرافي، و لا الانشغالات الشاغلة ... حين يكون هو في قارة و أنا في أخرى ، نبقى دائما على اتصال ، نتبادل الأنباء و الآراء و الإخوانيات...
لا غرابة إذن في أن معرفتي به كانت عميقة... لا يعدلها إلا مدى إعجابي به، و وتشوقي للقائه حين كان على وجه الأرض، و أسفي عليه منذ فارَقَنا... فكيف لا أأسف عليه و أحزن، و قد فقدتُ فيه الصديق الوفي الطيب الودود المؤتمَنَ على السر؛ صديقا كأني اصْنعته لنفسي طبق مرادي.. فقدْتُ فيه خصالا قلّما وُجدتْ ملتئِمة متشابكة بانسجام في شخص واحد...
حزني عليه تَبعثُه تارة ذكريات تُعيدني إلى زمن بعيد، و أحيانا شعور مُزمنٌ بفقد شخص لا أمَلَ في وجدان مثله، و لا في سِداد ما ترك بينُه من الثغرات..
فقدتُ فيه - مثل كثيرين غيري- النُّبل الطبيعي، و الأدب في أروع تجلياته، و رجاحة العقل، والظرافة و صدق المشاعر، و وفرة المعارف...
عرفته مُحبّبًا إلى قلوب الناس، محلَّ إجماعٍ لكل الذين عرفوه او لَقوه او سمعوا عنه...
عرفته حلو الشمائل، كامل المروءة، مُتّصفا بالجد، مسكونا بشغف المطالعة، سائغ االمفاكهة، مَريئَ المُجالستة ...
هكذا كان محمد..
و هكذا عرفتُه على مر السنين إلى أن غادر هذه الدنيا..
اتّصل بي إبان نعْيه عدد من الاصدقاء ، و قدّم لي كل منهم عزاءً في جانب من شخصيته كان أثار إعجابَه؛ هذا في جودة أدبه، و ذاك في ظرافته و حسن أخلاقه، و آخر في غزارة معارفه...
و أذكر أن أحدهم قال لي: "أنا في الحقيقة لا أعرفه كثيرا، لكني أعزيك في أناقته..."
زارني دمب في منفاي بعد ان دعوته و الْححْتُ عليه مرارا ..
و لكمْ فرحتُ و سعُدتُ بذلك التلاقي...
تجوّلنا بين معالم مدينة باريس ، و كانت له في كل مرة ملاحظات و استغرابات طريفة تطربني و تسليني... حتى أشعرَ بأني استرحتُ من ثِقَل المنفى الحضاري و ما أدريك ما هو...
أما اليوم، فكلما نذكّرتُ محمد و عاودني الأسف على فراقه، حضرني تلقائيا بيتان قديمان كأنهما إياه يقصُدان:
فتىً ليس بالمِجعاز في زمن الطّوى
ولا هو يالمِبطارِ في زمن اليُسْرِ
إذا خِيضَ في الآداب كان حديثُه
ألذَّ على الأكباد من جُرَع الخمر...
يؤاسيني في فقده أنه رزءٌ أتقاسمه مع جمع غفير من الناس، من بينهم ذووهُ و كل أصدقائه و مناصريه و المعجبين به و هم كُثُر.. وأذكر منهم خصوصا السيدة الفاضلة حقا الوفية توتو بنت دودو ولد الميداح، و الاطفال حفظهم الله و قر بهم العيون، و الوالد دودو، و الأخ الغالي العميد اعل (الرّجّاله) و الشيخه البارزة المعلومة...
و لولا أن تُذكِّروني بأننا لسنا في حصة بلاغات، لَطالت القائمة حتى تشمل جميع افراد الأسرتين الكريمتين العريقتين آل مانو و آل البُبّانْ، و عشيرة الفقيد اولاد احمد من دمان، و أصدقاء الأدب الرفيع في كل انحاء البلد.
رحم الله محمدا و بارك في ذويه من بعده و أحاطهم بعنايته و رعايته