تمر اليوم الذكرى الأولى لفاجعة رحيل الوالد الفاضل والشخصية الوطنية المحببة المرحوم محمد ولد إبراهيم ولد السيد والأخت الغالية المرحومة أمنة بنت إبراهيم ولد السيد و بهذه بهذه المناسبة الأليمة اعيد نشر مقال تأبيني حاولت كتابته العام الماضي واناى تحت تأثير الصدمة هذا نصه:
انتقل إلى واسع رحمة الله وعظيم منّه وغفرانه، الرجل الوطني الشهم، رئيس جهة الترارزه، محمد ولد إبراهيم ولد السيد وزوجته الفاضلة أمنة بنت إبراهيم ولد السيد، إثر حادث سير أليم، أفجع الكل، فكان رزيئة للقيّم، ومصيبة ألمّت بالضعفاء، ونائبة أصابت بسهامها الأمن والسياسة، ونكبة تجرّع ألمَها الأهلُ والأصدقاء والأقارب والأباعد.
وبذلك تنطوي صفحة مشرقة من تاريخ الوطنية والعمل الجاد خدمة للوطن والجهة والأهل بإخلاص وتواضع وأريحية، ولكن أيضا بقوة وحضور ونفوذ وتفانٍ لا يضاهى.
لقد كان الفقيد -كما يعلم الجميع- شخصية أمنية وسياسية بامتياز، إذ شكل إحدى ركائز الدولة العميقة ودعاماتها الأساسية بفضل الخبرة التي راكمها خلال مسيرة مهنية طويلة قاد خلالها أهم إدارات الأمن وأكثرها حساسية، لكن الوجه الآخر للمرحوم محمد، والذي قد لا يعلمه الكثيرون، هو محمد الإنسان، العابد المخبت، محمد المنفق في سبيل الله، بعيدا عن أضواء السياسة وميكرفونات الصحافة.
لمحمد علاقة وطيدة بالمسجد المجاور لمنزله والذي كان ينتظر به الصلاة بعد الصلاة، مما أسفر عن علاقة خاصة له بإمامه اكتشفتُها شخصيا خلال زياراتي المتكررة للمرحوم في منزله، فكان كلما سمع النداء يقاطع محدثه بدعوتنا لمرافقته إلى المسجد، وهنا لاحظت مدى الانسجام ولغة الممازحة بين الإمام والراحل.
كان آخر اجتماع سياسي أحضره معه في أول ليلة من رمضان الماضي حيث وصل مكان الاجتماع بعد صلاة المغرب ليأخذ مكانا منزويا من المنزل، وينقطع عنا في الابتهال والدعاء والذكر. واستمر في ذلك حتي كان آخر من دخل القاعة بعد بدء الاجتماع الذي تأخر كثيرا عن وقته المحدد.
كان محمد يستحضر الرحيل، لذلك كان على صلة دائمة بمقبرة الميمون الأهلية المباركة التي دفن فيها، وكان يزورها بانتظام ويعرف خريطة أضرحتها بشكل لافت، بل كان كثيرا ما يتطوع، عند وفاة أحد الأهل أو الأقارب، بالقيام بكل الإجراءات المتعلقة بالدفن. وكنت شخصيا شاهدا على ذلك حيث اتصل بي في إحدى المرات عبر الهاتف للحديث في أمور تتعلق بالسياسة، وكنت وقتها في مسجد الرابع والعشرين للصلاة على جنازة إحدى الأخوات، فنعيتها له فتأثر كثيرا، وقال لي انه سيتوجه إلى مقبرة الميمون للقيام بالإجراءات، وأنه يعرف جيدا مكان ضريح والدة المرحومة، فلم تثنيه عن مسعاه حرارة الشمس في ذلك اليوم، ولا بُعد المسافة، ولا الارتباطات السياسية الضاغطة.
أيادي محمد البيضاء كانت تترك بصماتها الإيجابية، وتنثر الخير والود والمحبة في كل إدارة أو منطقة أو جهة مر بها في مشواره المهني الطويل والزاخر بالنجاحات، ومن الأمثلة على ذلك دفاعه عن حق مجموعة من الأسر الهشة في حي المتفجرات في نواذيبو، نهاية الثمانينات، حاولت بعض الجهات مصادرة أرضهم حيث كان وقتها يشغل منصب مدير جهوي للأمن في الولاية، كما كان عضوا في لجنة توزيع القطع الأرضية، فما كان منه إلا أن تبنّى قضيتهم في الوقت الذي كان بقية أعضاء اللجنة يسعون لترحيلهم وإخلاء المكان. وبعد كسبه الرهان وحصوله على الموافقة بمنحهم تلك القطع، تفاجأ بكونهم غير قادرين على تسديد التعويضات التي تفرضها الخزينة العامة مقابل منح القطع الأرضية، فقرر تسديد تلك المبالغ نيابة عنهم.
وقد رد هؤلاء المواطنون الجميل للمرحوم- كما رده كل الموريتانيون- من خلال الموكب الجنائزي المهيب الذي خصصوه لتوديعه، ومن خلال مظاهر الحزن والحداد التي خيمت على الشارع الموريتاني، فاعترفوا بفضله وكرمه وخلدوا وقوفه معهم ومؤازرته لهم بتسمية أول شارع يرسم في حيهم الجديد باسمه: "شارع ولد السيد"،" شارع مدير الأمن.
ينضاف إلى ذلك سيل الشاهدات الطيبة من الطلاب والمساكين وأصحاب الحاجات الذي تفيض به وسائل التواصل الاجتماعي بعد رحيل محمد.
هذه المكانة وهذا القرب من الناس عكسته أيضا صناديق الاقتراع حيث يعتبر المرحوم ثاني منتخب موريتاني من حيث عدد الأصوات التي حصل عليها خلال آخر انتخابات، وذلك طبعا بعد رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني، كما أنه الوحيد تقريبا الذي زكته دائرته الانتخابية بكل مقاطعاتها وأحلافها.
وكما يقال ان "وراء كل عظيم امرأة"، فإن مع المرحوم، وليست وراءه، زوجته وابنة عمه ورفيقة دربه، المرحومة أمنة بنت ابراهيم ولد السيد التي كان لها دور كبير في مسيرته الحافلة بفضل كرمها وصدقها وأخلاقها الفاضلة.
رحم الله محمد وأمنة برحمته الواسعة، وجمعهما في جنات الخلد، وبارك في خلفهما، وربط على قلوب ذويهما وأصدقائهما ومحبيهما.
وإنا لله وإنا إليه راجعون..
امربيه ولد الديد