في يوم من أيام شتاء عام 1989 سمعتُ في «عدل بكرو» رجلا مسناً يقول، وقد أشار بسبّابته: تحت تلك الشجرة كنا هنا ذات مقيل مع المختار ولد داداه عام 1961، وقد خاطبنا قائلا إنه يريد منا التقري ونبذ الترحال خلف المواشي، وإنه سيبني لنا مدارسَ ومستوصفاتٍ، وإنَّ شاحنات كانت ترافقه بها كل المعدات التي تحتاجها الفصول المدرسية، من سبورات وطباشير وأقلام ودفاتر ومساطر، وستتبعها أخرى محملة بالكراسي.. وإنه ما لم يتعلم أطفالنا الآن تعليماً عصرياً، ليصبح منهم المهندس والمعلم والطبيب والعسكري والمحاسب والموظف الإداري.. إلخ، فلن يكون لاستقلالنا أي معنى أو قيمة حقيقية.
وبعد مقيل الشجرة الرئاسي بأقل من عامين كان المكان ذاته مسرحاً لمعركة شجاعة خاضها الإداري والوزير السابق المرحوم عبدالله ولد الشيخ ولد أحمد محمود من أجل إفشال محاولة مالية لضم عدل بكرو. وفي مقابلة أجرتها معه إحدى الصحف المحلية قبل عدة أعوام من الآن، كشف ولد الشيخ عن قصة لا يعلمها الكثيرون حول نشأة المدينة. إذ كان في بداية الستينيات والياً للولاية الأولى (الحوض الشرقي)، فبلغه أن سريّة عسكرية ماليةً تُقِيم مند عدة أيام عند «حاسي عدل بكرو» باعتباره أرضاً مالية، فتحرك على الفور من النعمة باتجاه المكان المذكور، وهناك دعا القوات المالية للمغادرة دون تأخير، لكنهم ردوا بالقول إنه لا سيادة لموريتانيا على المكان وإنهم باقون فيه، ومستمرون في بناء مقر أحضروا المواد والمعدات اللازمة لإنشائه. عندئذ قرر عبدالله البقاء قبالة معسكرهم، مع السائق والحرسي المرافقَين له، ففرش إيليويشه وطلب إشعارَ والي ولاية «النوارة» أنه موجود في انتظار قدومه. وفي الوقت ذاته وجّه استدعاءً عاجلا عبر اللاسلكي إلى قوات الجمالة، بقيادة الملازم محمد محمود ولد الديه، طالباً منه التوجه إلى عدل بكرو، كما زوّد السلطات العليا في نواكشوط بمعلومات الموقف. وفي الأثناء تعمّد تمديد المفاوضات مع نظيره المالي المتمسك بعدل بكرو، في انتظار وصول قوات الجمالة الموريتانية. وبعد وصول هذه القوات في اليوم الثالث أو الرابع، وبعد إجراء اتصالات مكثفة بين نواكشوط وبامكو، وبعد ما اتضح للجانب المالي من صلابة في موقف الوالي الموريتاني وحكومة بلاده.. لم تغرب شمس اليوم السادس على معركة «عض الأصابع» هذه، حتى سلّم الماليون بموريتانية عدل بكرو وقبلوا بتشكيل لجان للتباحث حول الحدود، وفي الوقت نفسه كان جنود المعسكر المالي يطوون أمتعتهم ويغادرون المكان دون رجعة. لكن عبدالله ولد الشيخ بقي هناك أياماً عديدة أخرى يراقب ويساعد في إنشاء أول مقر حكومي موريتاني في عدل بكرو، وكان مقراً للجمالة، أنشأ بعده بناية مدرسية ثم مستوصفاً. وكان يتجول بين الأحياء البدوية في محيط المكان، يحثها على الاستقرار والتقري في عدل بكرو، حفاظاً عليه ضمن الحوزة الترابية ومنعاً للأطماع المالية من محاولة ضمه مجدداً. وبالفعل فقد توافد بعض الرُّحَّل للاستقرار والتقري في المكان، وتكونت سوق للمواشي والبضائع أصبحت هي الأكثر نشاطاً وازدهاراً في الحوض الشرقي كله.
وعلى خلفية التوتر في عدل بكرو التأمت قمة خاي بين الرئيسين المختار ولد داداه وموديبو كيتا عام 1963، والتي قال عنها المختار ولد داداه في مذكراته: «بعد نقاشات ساخنة في هذا اللقاء حصل بيننا اتفاق على أن مؤتمرنا ليس هيئة قانونية يمكنها البت في هذه القضية، لكنه اجتماع سياسي عليه أن يبحث عن حل سياسي لمشكلة سياسية أيضاً. واستمرت المفاوضات، لكن بصعوبة بالغة. فقد وصلنا عدة مرات إلى نقطة القطيعة، لكن الإرادة الطيبة التي تحلى بها الطرفان، والرغبة الصادقة في إيجاد حل لمصدر الشقاق بيننا جعلانا نتجاوز خلافاتنا، ونكبح جماح حميتنا القومية لنتوصل إلى حل يرضى كلا الطرفين. واقتضى هذا الحل تقسيم المناطق المتنازع عليها تقسيماً عادلا، وخاصة المنطقة المهمة منها وهي منطقة تلمسي». ويتضح من هذا أن الحدود الموريتانية المالية لم يجر ترسيمها في قمة خاي كما يعتقد البعض، ليس فقط لأن الحدود طويلة يزيد طولها على 2200 كلم، ومن ثم فترسيمها يتطلب موارد مالية وتقنية وبشرية لا تتوفر حينها للبلدين، ولكن أيضاً لأن هناك بعض المناطق على هذه الحدود الطويلة ما تزال مثار خلاف بين الدولتين.
ويقول محمد عالي شريف: «نذكر أيضاً خلاصات اللقاءات الموريتانية المالية في خاي سنة 1963، المتعلقة بترسيم الحدود في مناطق محددة، لا بمراجعة الإرث الاستعماري الذي صدّق عليه بمجمله دون توترات تذكر. وما تزال مشكلات من هذا النوع تحدث في عدد من مناطق العالم، لا في أفريقيا وحدها. وقد استقر عرفٌ قانوني متفق عليه قائم على قبول تسوية وقتية، ويقضي باستبعاد كل ما يؤدي إلى المواجهة والحرب، حتى ولو ظهرت توترات حادة من حين لآخر».
وبالنسبة لـ«حاسي عدل بكرو» على الخصوص، فهو اليوم مدينة موريتانية خالصة وخارج أي خلاف حدودي، وإن كانت تتأثر حتماً بأي توترات حدودية راهنة أو محتملة.
محمد المنى