من النصوص الأدبية المفعمة بالتراث المحلي قصيدةٌ قافية جميلة نادرة من نوعها للشاعر المُجيد بالعامية و الفصحى: أحمدُّو بمبَ بن أحمد بن ألمين بن أحمد بن العاقل دفين المذرذرة المتوفي سنة 1942م ... و هذا النص الذي لم يحظ حتى الآن بما يستحقه من التحقيق والتعريف في الأوساط المهتمة، هو عبارة عن جولة ممتعة يطوف بنا فيها الأديب في مناطق شتى من منطقة اترارزة مع وصف ممتع و طريف لمظاهرَ من الحياة البدوية في كل منها آنذاك ... يبدأ أحمدُّو بمبَ جولته من الجنوب وبالتحديد من أرض شمامَ:
هل خِيضَ ما فِي سَوادِ الريفِ من طُرُقِ
أم للحيازمِ ماؤُها أمِ العُنُقِ
أمْ هل يبيتُ بها البعوضُ مُهتجزاً
والليثُ يوقعُ في فواتحْ الطُّرُقْ
أم للفرانق رقصٌ في جوانبها
كأنها سطرةٌ في جانبِ الأفُقِ
ثم يتجه شمالاً ليصف لنا بادية إكيدي أرض القتاد (أيْروارْ) و الآبار الطوال:
إلى القتـادْ ومـا ضمّتْ مآزرُهُ
مـْن كـامـل الخُلّتـيــن : الخَلْقِ والخُلُقِ
أم هل تُبـاكره سُـودٌ بأيـمُنهـا
أسنّةٌ عَوَّدوهـا الطعـنَ فـي الحَدَقِ
أم هل تبـيـتُ تصرّ الـبكرتـانِ بـِهِ
كأنّ فـي الـحـيّ آلافـاً مـِــنَ الـطُّلُقِ
و عند وصوله في الجولة لأرض البشام '' آدْرِسْ" ذي الرائحة الزكية، يقول أحمد بمب واصفا استظلال جموع الضأن السود ذات الغُرر البيض بظله الوارف مستغنية عن ورقه بعد أن قضت لها من العشب وطرا:
أم هل سبـيلٌ إلـي أرض الـبشـامِ ومـا
تأتـي الجنـوبُ بـهِ مـن نَشْرها العَبق
لا زال يحنُـو عـلى سُـودٍ لهـا غررٌ
تظلّ سكرى فـمـا تهتـمُّ للـورَقِ
ويراسلنا أحمدو بمبَ بصورة مسائية أصيلة مليئة بالوجدان من البادية المحاذية للمحيط الأطلسي أرضِ "آفطوط الساحلي":
أم هل سبـيلٌ إلى شطّ الـمُحـيـطِ ومــا
فُويـق شـاطئه مـن رمـلةٍ يَقَــقِ
وهل تسنّمه مَشـيًا جآذرُ مــِنْ
آلِ الشّفــيعِ وآرامٌ مـِـنَ الأمَقِ
مـِن كل بـيضـاءَ فـي عِـشـريـنَ مـن "قَـلمٍ
بـوجهـهـا مـنه آثـارٌ عـلى العَـرقِ
لا تُسْمِج العـيـنُ طـوعًا رمـيَ بسمتِها
ولا تُفـارقهـا إلا عـــــلى تَأَقِ
و قولهُ: " الأمق'' يعني قبيلة لِمَّاكِي'' القاطنة بتلك النواحي، وقوله : '' قلم '' : اسم نوع من "النيلةِ" : اللباس المعروف.
و أترك للقارئ الحكم على وصفه لمهارتهم في التوازن فوق الرواحل المعروفة ب"العُبيديات"، و المراكب تُعاقب بين أسرع ضروب السير:
أم كـيفَ نأخذُ أطرافَ الـحديث عــلى
بُزْلٍ تُبـادِلُ بـيــــن النَّصِّ والعَنَقِ
لـولا أزيـزُ العبـيـديّاتِ تحسُبنــا
عـلى الأرائك مـن سَلاسة الخُلُقِ
و ما كان أحمدُّ بمبَ ليتكلم عن حياة البادية دون أن يتعرض لأحد أبرز ملامحها، وهو تلك المأدبة الدورية المعروفة ب "وَنْــڭالَ"، والتي غالبا ما تكون حول شواء له طقوس خاصة أشار لبعضها :
أم هل أُجـاوز أقصى الـحَــيّ مُبتدئاً
فـي ضـيعةٍ لِشـواءٍ غـيرِ مُحتــــرِقِ
يَـنـُوبُنـِي يُمُنَ الـمُـوسـى فأقطعهــا
حـمـراءَ لا أختشـي مـن حُمـرة الـحَدَقِ
و كان الشاعر قال هذه القصيدة التي تربو على الثلاثين بيتا، زمن الخريف إبان إقامة له في أحدى مُدن جنوب النهر النائية، على سبيل الوحشة و الاشتياق:
إنِّي أنا البدويُّ القـُــحُّ لستُ كَمَنْ
ما إن يشُمُّ و لمْ يسمعْ و لم يَــــذُقِ
إن الـحضـارةَ فـيـهـا النفسُ مُـثقــــــلةٌ
طبعـاً ولـو سكـنـتْ أرضـًا مِـنَ الــوَرِقِ
أو هـيّ فـي غُرفٍ مـن فـوقهــا غُرَفٌ
أو هـيَّ فـي أُفُقٍ أو هـيّ فـِــي نَفَقِ
وفي شأن هذه الشخصية الأدبية البارزة، قد لاحظت عدم تداول شعرها الفصيح - على جودته- مقارنة بشعرها العامي ذي الشهرة الواسعة. و في انتظار أن تتأتي فرصة كتابة متأنية عن ديوانه الفصيح، سأختم هذه الإطلالة بمرثيته الرائعة لشيخه العلامة الورِع : زينْ بن إجَّمدْ اليدالِي، والتي تدل جماليتها على جودة باقي شعره الفصيح:
أرى الأيَّـامَ تضربُ بالعـــــــِراضِ
وتَـنْـتِـقـِرُ النّفائسَ بانقـراضِ
و تسلُبــُـــــكَ المُحـــــــبَّـبَ لا إليها
وتشرِي العِلقَ مِنكَ بلا تراضِ
لئِنْ نزلت لقــد نزلت بِخِــــفٍّ
قديــمًا ما تأهَّــــبَ للنِّــهاضِ
أخِي سفرٍ فليسَ بذِي وِسادٍ
ولا عَبْـلِ الـذِّراعِ و لا مُفـاضِ
أتانا أنــــها أخـــذتْ بزَيـــــــنٍ
على ذاتِ اليَمـــينِ طريــــقَ ماضِ
أزيـنَ العـابـديـنَ لـدى الـمُـصــــــَلّى
وزيـنَ الـحـاكـمـيـنَ لـدى الـتَّـقـاضِي
وزينَ القارئينَ بكل حرفٍ
وزيـن الـمُسنديـن إلى عِيــاضِ
وزيـن الـمـُوسِعـيـن لكلِّ ضــيفٍ
وزيـن الـمُعـرضِـيـن عـن العِضــاضِ
وزينَ الأخذينَ على أُوَيْسِ
وزيـن النـاسبـيـن إلى مَضـاض
لَئِن نُفِضتْ بـه غُرَرُ الزوايـا
فأضحتْ وهـْيَ خـاويةُ الـوِفــاض
فلا نـورٌ يلـوحُ ولا وقـارٌ
ولا رُعبٌ تذوبُ له الـمـواضـــــي
فلا واللهِ لـم أرَ مـِـثل زَيْنٍ
إذا وُضِع الـيـمـيـنُ عـلى بـَيــاضِ
ولـم أرَ مـثلَه شـرفــاً وزهداً
إذا عُرِضتْ شغامـيـمُ الـمَخـاض
على قــبرٍ تضمــنهُ سلامٌ
كأطــيبِ ما يكُــونُ من الرياضِ
جمعتكم مباركة
عز الدين بن ڭراي بن أحمد يورَ