دقة - حياد - موضوعية

"سيرة من ذاكرة القرن العشرين": تاريخ الاستقلال في موريتانيا

2023-03-22 08:37:04

أصدر عدد من الساسة الموريتانيين، من جيل تأسيس الدولة الموريتانية الحديثة، مذكراتهم، في محاولة لكتابة تاريخ فترة الاستقلال، والعقود الأولى لنشأة الدولة الحديثة، وتحديات انبثاق التحول الذي صنعوه.
"سيرة من ذاكرة القرن العشرين" هو عنوان المذكرات التي أصدرها السياسي والإداري والدبلوماسي، الدكتور محمد عالي شريف، مسجلًا فيها تجربته وفلسفته ورؤيته لمسار طويل من العمل الإداري، مع الرئيس المختار ولد داداه، والأنظمة المتعاقبة. صدرت الطبعة الأولى من هذا العمل الغني بالمعلومات والتحليلات عن دار الساقي في لبنان في 398 صفحة، واشتملت على 12 فصلًا مع مقدمة وتمهيد وخلاصة.


أولًا: الميلاد والنشأة
يتميز عالي شريف عن بقية الأطر من معاصريه بثقافته العالية التي اكتسبها من مدارس الفرنسيين الخاصة في غرب أفريقيا، وأميركا، وفرنسا. انعكس هذا على شخصيته، فتجاوز بسرعة صدمة الثقافة الحديثة من خلال قراءاته الفلسفية العميقة التي جسدها في هذه المذكرات.
ولد شريف في مقاطعة لابي، في غينيا كوناكري عام 1943م، ومكنته ظروف أسرته من ولوج المدرسة الابتدائية النظامية الفرنسية (1952م). بدأ دراسة المرحلة الإعدادية في كوناكري 1954م، بالتزامن مع دراسة القرآن، واللغة العربية، في كنف الأسرة. وهو ينحدر من أسرة موريتانية هاجرت إلى غينيا 1918، وجدُّه كان من المشاركين في معركة أنيملان (6 مايو/ أيار 1906م). في داكار، أنهى الدراسة الثانوية ما بين (نوفمبر/ تشرين الثاني 1957م/ وتموز/ يوليو 1959م)، وكان مستوى التعليم في ثانوية فان لافان في داكار عاليًا جدًا، وهي الثانوية التي يدرس فيها أبناء الفرنسيين.
وصل شريف إلى الولايات المتحدة في سبتمبر/ أيلول 1961، قادمًا من كوناكري عبر داكار بعد ساعات من الطيران. يقول: "وجدنا وفدًا رسميًا كان ينتظرنا أنا وزملائي الذين حصلوا على منحة من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، بواسطة منظمة غير ربحية تسمى "المعهد الأميركي الأفريقي"، وتم التكفل بنا واتجهنا إلى مصالح الهجرة مع بقية المسافرين، فأكملنا إجراءاتنا بسرعة فائقة... وعند العاشرة صباحًا، اجتمع الفريق بمدير المدرسة. بداية، صدمتنا كلمة (college) بعض الشيء، لأنها في المصطلح الفرنسي تحيل إلى التعليم الثانوي. لكن الأستاذ بولاي فسر لنا المقررات. بولاي من رجال الدين الكاثوليك، وهو واسع الثقافة وينتمي إلى المؤسسة الكاثوليكية التي تكلفت بتعليمنا الإنكليزية الأميركية: دروس مكثفة يقدمها أستاذ، تتبعها تمارين على الأشرطة لتسريع تعلمنا النطق الصحيح، مع اختبارات يومية لا حصر لها".
بعد إتمام الدراسة بنجاح في التعليم العالي في جامعة بوسطن، حصل شريف على بكالوريوس في الآداب: "كان عليّ أن أكمل الدراسة، ولا منحة لدي في أميركا، فقررت بمساعدة بعض الأصدقاء القدماء الذهاب إلى فرنسا، حيث التعليم عمومي ومجاني". عبر شريف المحيط الأطلسي في باخرة USS في ستة أيام، من نيويورك إلى ميناء لوهافر الفرنسي، في أغسطس/ آب 1964م؛ "كان الذهاب من أميركا إلى فرنسا قمة المتعة الفكرية والعاطفية، ولا سيما للتعرف على المدينة الساحرة التي ظلت مسرحًا لعدد من الأحداث السياسية المهمة على مر التاريخ".
تم قبوله في جامعة السوربون بناء على قرار من مجلس أساتذة من مستوى عال، لمناقشة رسالة دكتوراة بعنوان: "دراسة وضعية الرق ودوافع استمرارها ومخلفاتها في المجتمعات الإسلامية في منطقة غرب أفريقيا"، بإشراف مباشر من عالم الأنثربولوجيا المتخصص في الدراسات الأفريقية جورج بالانديه. 


ثانيًا: العلاقة بالمختار
قبل العلاقة بالمختار ولد داداه، تلقى شريف دعوة من أخ للمختار كان يدرس في ثانوية فان لافان في داكار، وتلقى حين كان في داكار، أيضًا، ومن ثم في الولايات المتحدة، دعوة من السفير المغربي أدي ولد سيدي باب. في ذلك الحين، وصلته رسالة من والدته تطلب منه بشكل عاجل الرجوع إلى موريتانيا، بعد استكمال المسار الدراسي. رجع إلى موريتانيا عام 1967، فاستقبله الرئيس المختار في مكتبه، مرحبًا ومثمنًا هذه العودة؛ "زاد الحديث على نصف ساعة، ثم صافحني قائلًا إنه يتمنى أن يراني في وقت قريب".




بعد بضعة أيام، اتصل بشريف أمين التنظيم في الحزب، احمد ولد محمد صالح، ومدير ديوان الرئيس، صال عبد العزيز؛ "أكد كل منهما أن الرئيس تحدث عني، وطلب مناقشة العمل الذي سيسند إلي وفق تأهيلي والحاجة المستعجلة لدى كل منهما لتعزيز الهياكل التابعة له على كل مستوى". طلب مدير الديوان من شريف البدء في العمل معه كملحق بالديوان، وأطلعه على المهام الموكلة إليه: "قبلت مبدئيًا، لكن بدوام جزئي، لأني من جهة مشغول بدوامي كمترجم محترف لثلاث لغات، العربية والفرنسية والإنكليزية، في سفارة الجمهورية العربية المتحدة الواقع مقرها بالقرب من الرئاسة".
في الفاتح من سبتمبر/ أيلول عام 1969، استقبله الرئيس مجددًا، وقال له بالحرف: "أتمنى أن تقبلوا منصبًا صعبًا قليل الامتيازات، هو منصب الأمين العام للرئاسة، فتصبحون أقرب المعاونين إلي". يقول شريف: فكرت قليلًا قبل أن أقبل بهذا الاقتراح. فالمرسوم المتعلق بصلاحيات الأمين العام للرئاسة ينص على أنه يساعد الرئيس في تنسيق العمل الحكومي. قبل شريف المنصب بعد قول الرئيس "اعتبروني أخاكم الأكبر، ولا تترددوا ساعة في إعطائي تقييمكم الشخصي، ورأيكم حول مشكلات البلاد كافة، إنكم تعلمون أن كل شيء في حاجة للبناء، والمشكلة الثقافية، التي نتفق تمامًا على أن طرق معالجتها يجب أن تحظى بالأولوية، مع أن كل شيء أولوي، كجميع القطاعات الملحقة بالأمانة العامة لرئاسة الجمهورية".
ورغم فارق السن بينه وبين الرئيس المختار، لاحظ شريف أن الرئيس حليم وصبور إلى أقصى حد: "كنت شابًا غرًا لا أخلو من بعض التسرع الذي يغذيه الحرص على فعل ما هو حسن، مع ذلك كنت غير مبال بالتهديدات المحتملة بتحويلي خارج منصبي، أو حتى فقدان وظيفتي". ومع مرور الوقت، بدأ شريف يلفت نظر الرئيس إلى ما يرى فيه خطأً، أو صوابًا، أو نواقص، في تسيير وتصرفات بعض مساعديه. وفي غياب أي رد فعل من الرئيس على ملاحظاته، شعر بالعجز عن تغيير الأمور، ما قاده إلى تقديم استقالته مرتين، لكنه تراجع عن ذلك عندما قدم له الرئيس أسباب البطء في تسليط العقوبات: "في الوقت الذي تعاني فيه البلاد من عجز حاد في الكوادر، هل من المناسب التخلص من أشخاص لهم عيوب، أم نحاول تربيتهم وتعليمهم وفق المستطاع، كي لا يكون البديل اللجوء للمساعدة الفنية الأجنبية التي أعرضنا عنها لتأكيد استقلاليتنا؟".
ونظرًا لثقته الكاملة في الرئيس، وفي أمانته الفكرية، ونزاهته الأخلاقية، تخلى عن استقالته... فالثقة المتبادلة بينه وبين الرئيس قوية جدًا "إلى درجة أننا مذ صرنا نعمل معًا يوميًا كان هنالك اقتصاد في الوقت في مهماتنا، وكان كثيرًا ما يقول إذا تحدث في مجلس الوزراء: "إن محمد علي سبقني إلى ما كنت سأقول"".
تعززت الثقة مع المختار إلى درجة أن كل الأعمال والمشاريع التي قدمها شريف كان يوقع عليها الرئيس من دون تعديلات تذكر؛ "مع الأسف، كانت لهذه الثقة جوانبها السلبية، فبسببها كان يكلفني بإعادة الأعمال التي تقوم بها كثير من الإدارات، بمساعدة المستشار آبيل كامبور سي في الميادين القانونية والإدارية، وربما كنا أكثر المعاونين عملًا، لأن الرئاسة هي المرحلة الأخيرة، ما يتطلب أن نعكف باستمرار على تقديم الملفات والدراسات بأقصى قدر من الإتقان في الشكل والمضمون".




يشير شريف هنا إلى أن الرئيس المختار كان شديد الاحترام لصلاحيات الوزراء والإدارات، وكان يقول: "الإعطاء والمنع في الوقت نفسه لا يصح". كانت تدخلات أمانة رئاسة الجمهورية واسعة، اطلع فيها على العمل الحكومي والإداري بشكل واسع، لكنْ مع احترام كبير للشكليات الإدارية.
يقول: كان سياق علاقاتنا اليومية من (1970 إلى 1978م) أننا كنا لا نفترق إلا في عطلاته العائلية. وفي هذا السياق، كان يكلفني قبل أسابيع، أو أشهر، بمساعدته في إجراء التعديلات الوزارية، وبالتكتم المطلق الذي يتطلبه ذلك العمل.
كما يتحدث شريف في هذه المذكرات عن الملفات التي كان يكلف بها، كمبعوث خاص لرؤساء الدول، وإدارة العلاقة مع فرنسا، والملفات الخارجية الحساسة، والعلاقة بمؤسسة الأركان.


ثالثًا: نظرته إلى اليسار
لا يخفي محمد عالي شريف في هذه المذكرات تبرمه من طرح الحركات الشيوعية التي غزا فكرها عالم الجنوب، وتأثرت به الحركات والأحزاب والنخب في تلك الحقبة في أفريقيا بشكل كبير، ولكن الرجل رفضه من منطلق قراءاته الواسعة للفكر الإلحادي الشيوعي، واطلع على النقد الواسع الموجه للنظرية الاشتراكية، كما كان متابعًا يقظًا لخفايا التجارب السوفياتية، وجرائم الحزب الشيوعي وقادته. أفادته دراسته في الولايات المتحدة، وفي فرنسا، في مواكبة حيّة لحراك الأحزاب التحررية، خصوصًا حراك ما يسمى بالأممية الاشتراكية بقيادة المهدي بن بركة.
وعن حزب الكادحين والحركة الوطنية الديمقراطية، يقول شريف: "كان من الضروري للتقدميين تقديم قراءات من منظور الصراع الطبقي، حتى مع عدم وجوده على أرض الواقع. ولما تعذر عليهم خوض النضال التحرري لتأسيس مشروعية يسقيها دم الشهداء، أو نضال الطبقات بالمعنى الماركسي، كان الموقف النظري يكفي للتموقع في اليسار مع هذه الفئة من المنظرين، فالثورة في قلوبهم، ويقصد منها فقط تحقير الخصم وتقديمه كعدو للطبقة الكادحة وعميل للإمبريالية والاستعمار الجديد. الأمر، إذًا، نظري، وهو في النصوص لا في الحقائق التاريخية الملموسة التي تحتم قراءة صحيحة للواقع، ومن ثم الشروع في الكفاح الثوري من أجل التحرير الوطني والاجتماعي والتعبئة الأيديولوجية للجماهير".
هاجم الكادحون النظام بتهمة العمالة للاستعمار (...)، وهكذا تشكلوا في مجموعات عقائدية سرية تعتقد أنها تسير وفقًا للحتمية التاريخية، وذلك بغية تعميق أسس الكفاح الثوري الذي يتعين إطلاقه بكل استعجال.
ومع هذا، فقد تعامل النظام مع هذا التيار بكثير من التسامح، فبعض قادة هذا التيار كانوا يعقدون اجتماعاتهم في منازل مسؤولي الدولة، لينجوا من الرقابة والمتابعة البوليسية النسبية في كل زمن. حدثت اعتقالات لبعضهم بسبب المظاهرات غير المشروعة، أو خلال اجتماعات محرمة، تبعتها إجراءات قضائية، وإدانات، وعقوبات. وبعض عناصر هذه الحركات تخفوا، ولم يستمر البحث عنهم كثيرًا. ويذكر شريف أن صديقًا زاره قائلًا إن بعض المعتقلين يتعرضون للتعذيب، فـ"توجهت إلى الرئيس وأخبرته، فاتصل فورًا بوزير الداخلية يطلب تقريرًا مفصلًا حول الموضوع، مشددًا على أن هذا التصرفات محرمة على الإطلاق، لأننا مسلمون، وفي دولة القانون. وبعد التحقيق، تبيّن أن التعذيب لم يقع أصلًا، ومن كلموني في القضية اعترفوا بذلك، لكنهم قالوا إن الغذاء غير كاف" (ص129).


رابعًا: أزمات ومواقف
يستعرض المؤلف في هذه المذكرات أزمات ومشكلات، ويقدم رأيًا مهمًا ممزوجًا بتصرف السلطة الوطنية للدولة الموريتانية، خلال عقد الاستقلال الأول، خصوصًا إشكال الرق، والملف الحقوقي لمخلفات أزمات انقلابات حركة "إفلام" أواخر الثمانينيات، وحرب الصحراء، وإشكالية ترسيم الحدود مع الجارة الجنوبية السنغال. وقدم المؤلف في هذه الملفات خلاصات مهمة قد تفيد مع شهادات أخرى في استجلاء حقائق مهمة، لتقرب القارئ من أجواء صناع القرار خلال هذه الحقبة المهمة في التاريخ الموريتاني.

الضفة الثالثة

تابعونا على الشبكات الاجتماعية