كنت في فريق من الإعلاميين لرصد وتحليل تناول الإعلام الرسمي والاجتماعي للحرب الدائرة رحاها في أوكرانيا، مع التركيز على رصد الجوانب التمييزية والعنصرية التي شابت أكثر هذه التغطيات، وأثارت جدلا واسعا على مواقع التواصل المعروفة أصلا بالشعبوية والانفلات العاطفي.
كما تبين لنا ما كشفته هذه الحرب أيضاً من تناقضات في فكر بعض الساسة الغربيين الذين لم يخفوا رواسب العنصرية فيهم، ومن الأمثلة على ذلك ما قاله أوليس جوسيت معلّق السياسة الخارجية على قناة “بي أف أم” الفرنسية:
On est au 21e siècle, on est dans une ville européenne, et on a des tirs de missiles de croisière comme si on était en Irak ou en Afghanistan, vous imaginez !
“نحن في القرن الـ 21 وفي مدينة أوروبية، وهناك إطلاق لصواريخ كروز كما لو أننا في العراق أو أفغانستان،
تخيلوا أنتم!”
وكذلك ديفيد ساكفارليدزي، النائب العام السابق لأوكرانيا، في مداخلة عبر قناة “بي بي سي”:
It’s very emotional for me because I see European people with blue eyes and blonde hair being killed.
Children being killed every day with Putin Missiles
“إن ما يجري مؤثر للغاية بالنسبة لي لأنني أرى الأوروبيين بعيون زرقاء وشعر أشقر يقتلون.
أطفال يُقتلون كل يوم بصواريخ بوتين”
ولعل الأوضح بينهم كان رئيس الوزراء البلغاري: الذي كتب:
“These are not the refugees we are used to. They are Europeans, intelligent, educated people, some are IT programmers…this is not the usual refugee wave of people with an unknown past. No European country is afraid of them.”
“هؤلاء ليسوا اللاجئين الذين اعتدنا عليهم. إنهم أوروبيون، وأذكياء، وأناس متعلمون، بعضهم مبرمجون.. هذه ليست موجة اللاجئين المعتادة لأشخاص لديهم ماضٍ مجهول. لا يوجد بلد أوروبي يخاف منهم.”
هذه بعض أقوال الساسة المعروفين بالتأني وحساب الكلمات ومدلولاتها بعناية وحنكة وحكمة، أما ما يجري في وسائل التواصل فحدث ولا حرج!
حتى الإعلام المهني العتيد لم تسلم تغطيته من هذا التمييز على أساس اللون والعرق!
فهذا تشارلي داغاتا مراسل شبكة “سي بي أس” الأمريكية يقول بالحرف الواحد:
But this isn’t a place, With all due respect, you know like Iraq or Afghanistan that has seen conflict raging for decades.
You know this is a relatively civilized, relatively European I have to choose those words carefully too.
A city where you wouldn’t expect that or hope that it’s going to happen.
“لكن هذا ليس مكاناً، مع كل احترامي، يعني مثل العراق أو أفغانستان اللذين شهدا صراعات محتدمة منذ عقود
كما تعرفون هذا مكان متحضر نسبياً، وأوروبي نسبياً،
عليّ أن أكون حذراً في اختيار هذه الكلمات أيضاً،
مدينة لا تتوقع حدوث ما يحصل فيها ولا تتمنى أن يحدث.”
من ناحية أخرى يلاحظ المتتبع لهذه الحرب على وسائل إعلامنا العربية كمية كبيرة من السخرية والسطحية أحيانا التي عبرت أيضا لمواقع التواصل حيث التركيز على جمال الأوكرانيات الشقراوات ذوات العيون الزرق.. إلخ
بل وصل البعض من التفاهة أن صار يدعو بكثرة اللاجئين واللاجئات من أوكرانيا، مع مقارنتهن بالجنسيات الأخرى (ذات الألوان السمراء والعيون العسلية)، في عملية تشييء (objectification) قميئة للنساء.
ومن المفارقات أن صور الرئيس الأوكراني وهو يحمل السلاح أغرقت المواقع والتغطيات فصورته مقاوماً باسلاً كما تناول الإعلام الغربي التقليدي (بي بي سي مثلا) في تقاريره عمليات إعداد قنابل المولوتوف بشكل يدوي وتم تصويرها أيضا كعمليات مقاومة ملهمة!
بينما نعرف جميعا تصوير هذه الوسائل نفسها لصناعة هذه القنابل البدائية أيام حرب غزة مثلا، كما نتذكر تغطيتها لمسؤولي بعض القوى الأخرى في العالم الإسلامي والعربي وهم بأسلحتهم في الميدان..
لعل هربرت أ. شيللر محق في قوله في مقدمة كتابه المتلاعبون بالعقول:
“يقوم مديرو أجهزة الإعلام في أمريكا بوضع أسس عملية تداول الصور والمعلومات ويشرفون على معالجتها وتنقيحها وإحكام السيطرة عليها، تلك الصور والمعلومات التي تحدد معتقداتنا ومواقفنا بل تحدد سلوكنا في النهاية”.
محمد ولد إمام.