بادئ ذي بدء، أدين الغزو الروسي لأوكرانيا، الدولة ذات السيادة والعضو في الأمم المتحدة، باعتباره انتهاكًا واضحًا للقانون الدولي؛ ومع ذلك، أحاول في هذه الورقة تجاوز المياه السطحية والغوص في عمق الأحداث الجارية - جذورها وأسبابها ومآلاتها - بشيء من الموضوعية دون تسفيه طرف أو تزكية آخر، أو السقوط في ثنائية "الخير والشر" التي يعتمدها الإعلام التابع للغرب منذ عهد بوش الأب والإبن.
نعلم جميعا أن روسيا تعرضت للغزو من حدودها الغربية عدة مرات في تاريخها المعاصر. أولها كانت على يد "نابليون الأول" و آخرها على يد "هتلر". و لها ضع جيوسياسي الصعب يجعلها "حساسة" جدا بخصوص حدودها و تأمين محيطها المباشر من كل الجهات، وخاصة من جهة الغرب. ويجعلها كذلك تشعر بما يشبه "بارانويا" دائمة بسبب ما تعرضت له من غزو عبر التاريخ، وما تعرضت له خلال الحرب الباردة من ضربات أدت في النهاية إلى احتوائها و إضعافها حتى خسرت نفوذها الموروث من الاتحاد السوفياتي. بينما تنعم غريمتها - الولايات المتحدة الاميركية - بموقع جيوسياسي ممتاز يجعلها "محمية" بشكل طبيعي بالمحيطين الأطلسي و الهادئ، وكندا حليفًا استراتيجيا في الشمال، والمكسيك "حليفًا" اقتصاديًا في الجنوب؛ مما يقلل من احتمال تعرضها للغزو الأجنبي.
واستمرت روسيا تعاني وتدفع ثمن موقعها الجيوسياسي الرخو والصعب حتى عام 2008 عندما كشف الناتو في قمته الشهيرة عن نيته "ضم" أوكرانيا وجورجيا. حينها استيقظت، و بدأت تستعيد دائرة نفوذها بالقوة الناعمة مع كازاخستان وأوزبكستان وأرمينيا ومنغوليا وتركمانستان، و"بالقوة الصلبة" مع جورجيا والشيشان، وفشلت في أفغانستان .. وفي الأثناء، تجاوزت أمريكا كل الحدود في استهداف وتفكيك الأنظمة والجيوش ذات الصلة بروسيا والخارجة عن الطوق الأمريكي بدءا بالعراق (2003) وانتهاء بليبيا (2011). تلقى الرئيس بوتين الدرس متأخرا، وبادر بالتحرك في سورية (2015) لرد الاعتبار إلى بلاده والدفاع عن آخر موطئ قدم لها في العالم. وحقق بذلك التدخل العنيف أول اختراق حقيقي وانكسار يتعرض له النظام الدولي الأحادي. وقد أدى الحفاظ على سورية خارج النفوذ الأمريكي إلى بقاء دول أخرى مثل فنزويلا وإيران ونيكاراغوا وكوبا خارجه أيضا… واليوم تأتي "أوكرانيا" لتضع مسمارا جديدا في "نعش" نظام القطب الواحد، و تضع لبنة مهمة في بناء عالم متعدد الأقطاب يعطي للدول الصغيرة بدائل أكثر، و يتيح لها إمكانية اللعب على التنافس بين جهات متعددة.. و ليست تجربة مالي و جمهورية وسط أفريقيا منا ببعيد.
خلاصة القول،
إن إصرار الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها على ضم أوكرانيا إلى النيتو يعيد إلى الأذهان أزمة الصواريخ في ستينات القرن الماضي، ويعتبر "استفزازا" و"تهديدا" للأمن القومي الروسي و "شراهة سياسية" فجة. ويعني بالنسبة لموسكو الموت ببطء، ولن تقبل به أبدا، بل سترفضه بقوة كما رفضت أمريكا نصب صواريخ روسية في كوبا. ويبدو أن الرئيس بوتين اختار هذا الوقت بالذات لإبعاد الخطر عن بلاده مستندا إلى:
- التحالف القوي مع الصين في حين غفلة من الغرب،
- انشغال العالم بالكفاح لأجل التعافي من تأثير كورونا،
- تخبط أمريكا بين ميراث "اترمب" و عجز "جو بايدن"،
- رئاسة الاتحاد الأوروبي برئيس، هو نفسه مترشح لرئاسة بلده،
- الفراغ الناجم عن مغادرة "أنجيلا ميركل" التي هي عقل أوروبا وقوتها الهادئة.
كان حريا بعقلاء الغرب و قادته التزام الواقعية أكثر مما كان، و عقلنة أهدافهم، و تهذيب نشوة انتصارهم في الحرب الباردة، و الحدّ من طموحاتهم وأحلامهم بالسيطرة على العالم كله و نفي الآخر. كان حريا بهم العمل مع روسيا على إخراج أوكرانيا من دائرة الانحياز وإعلانها دولة محايدة على غرار "فينلندا" مثلا أو "سويسرا"..
لو فكروا جيدا لما جرحوا الدب ودفعوه إلى ركنه الأخير
محمد فال ولد بلال