لقد تم فصلي من القوات المسلحة في شهر نوفمبر 2004 على إثر تداعيات المحاولة الانقلابية الثانية لجماعة "فرسان التغيير" من أجل الإطاحة بالنظام القائم آنذاك. قذفت بي هذه الأحداث فجأة في خضم الحياة العامة و المدنية بعدما يزيد على 22 سنة من الخدمة في صفوف "البكماء الكبرى" كما يحلو للبعض أن يسمي الجيوش. شكلت هذه العودة القسرية و السابقة لأوانها لمهد الحياة المدنية، إحياء لشغف مكبوت منذ أمد بعيد، متمثلا في ولعي بالشأن العام و خدمة المصلحة العامة للسكان و بالأخص الطبقات المهمشة و التي يطحنها الفقر.
قادني هذا الميل الطبيعي بكل بساطة إلى تلمس الساحة السياسية حيث اتصلت بحزب التكتل عن طريق أمينه الفيدرالي على مستوى دخلت نواذيبو، المرحوم اليدالي ولد الشيخ، قبل أن يتم العفو عن رفاق السلاح القدماء و نؤسس معا حزب "حاتم" حيث تم اختياري لشغل منصب النائب الأول للرئيس.
اقتحمت هذه التشكيلة المكونة بالأساس من العسكريين السابقين الخارجين للتو من صفوف القوات المسلحة، اقتحمت الساحة السياسية مدفوعة بالكثير من الحماس و الطموحات الوهمية ويحدوها الأمل في أن تكون قاطرة للتغيير. داخل حزب حاتم، احتككت بقادة الطبقة السياسية و بالأخص جناح المعارضة منها و في نفس الوقت عشت من الداخل المكائد و الخدع والدسائس المحاكة من قبل بعض التوجهات السياسية والقبلية التي كشفت لي حقيقة التوحد الظاهري الهش لجماعة فرسان التغيير قبل أن تعصف هذه الاعتبارات بالنواة الصلبة التي تأسس حولها هذا الحزب.
بعد حاتم، انضممت لحزب التكتل سنة 2009 مع مجموعة من الأصدقاء و مكثت فيه حتى شهر أكتوبر 2016.
على مستوى هذين الحزبين، تشكلت لدي فكرة أكثر دقة عن مقاربة الطبقة السياسية للمشاكل الوطنية الكبرى على وجه العموم وخاصة قضية لحراطين. الكل يتكلم عنها ويشعر كل واحد على حدة بضرورة إيجاد حلول لها وعلى الرغم من ذالك، لا تنبثق رؤية ثاقبة، ناتجة عن عمل ثقافي معمق، لا من خلال البرامج و لا من خلال الإعلانات السياسية لهذه الأحزاب.
بتعبير أدق ، فإن التحليل السوسيولوجي و التاريخي الموضوعي ، بدون مواربة و لا تضخيم و لكن أيضا بدون مرارة و لا خشونة لوضع طالت فترة استمراره أكثر من اللزوم، يشكل ، من وجهة نظري ، الحلقة المفقودة لحل اللغز بالإضافة إلى إرادة سياسية صادقة على رأس الدولة بطبيعة الحال.
بعد أشهر قليلة من انضمامي إلىحزب التكتل في العام 2009، التقيت بشخصية استثنائية ستلعب دورًا محوريا في بقية مسيرتي؛ إنه صديقي المخلص محمدن ولد البو الذي تشاركت معه هذه الأفكار واتفقنا سويًا على الحاجة إلى تحريك المياه الراكدة من خلال رمي حجر في هذه البركة الآسنة من خلال إصدار وثيقة لا تقتصر على التحليل الشامل لمداخل و مخارج مسألة لحراطين ولكنها ستسعي كذالك لوضع الخطوط العريضة لمجموعة من المقترحات على شكل معالجات و حلول.
تسارعت الأمور منذ تلك اللحظة لتتمخض عنها الوثيقة التي ستحمل عنوان: "الميثاق من اجل الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية للحراطين ضمن موريتانيا الموحدة، العادلة و المتصالحة مع نفسها. "
شكلت هذه الوثيقة قاعدة الأساس ونقطة ارتكاز مدنية وأخلاقية لظهور حراك مجتمعي جديد، مفتوح أمام كافة القوى الحية في الوطن الموريتاني التي تشاركنا الرؤية أو التشخيص، بغض النظر عن أصولها الاجتماعية أو الإثنية أو العرقية أو الفئوية وبدون أي اعتبار لتوجهاتهم السياسية أو انتماءاتهم الأيديولوجية. نهدف في آخر المطاف من خلال هذه الوثيقة إلى تحقيق الإجماع السياسي والاجتماعي حول جميع القضايا الوطنية الكبرى - وخاصة قضية لحراطين - التي تقوض انسجام مجتمعنا وتعرض مستقبله للخطر وتعوق الوئام و السلام المدنيين . فالهدف الأساس هو مكافحة جميع الممارسات الاجتماعية الضارة و البالية التي لا تزال تلوث أجواء السكينة في مجتمعنا وتبث ثقافة التخلف مما ينسف أية مزايا أو جدوائية لمختلف السياسات التنموية في بلدنا مهما كانت كفاءة و بصيرة معديها.
يصبو هذا الحراك إلى حل نفسه بنفسه تلقائيا ـ و في أقرب الآجال الممكنة ـ بمجرد ما تزول الأسباب و المسببات التي دعت لإنشائه أو تقطع في هذا المجال أشواطا و مراحل من الأهمية بمكان حيث لن يكون هنالك من دواع لاستمراره.
يمكن أن تقسم المراحل الأساسية لنشأة وسيرورة هذا التوجه إلى المحطات التالية :
أ) - تصور الوثيقة وصياغتها ؛
ب) - الحصول على الإجماع حول الوثيقة ونشرها؛
ج) - تنظيم الحراك وترسيخ تخليده بمسيرة سنوية؛
د) - نشيد الميثاق.
أ) - تصور الوثيقة وصياغتها :
تم تدشين الفصل الأول من المسلسل الذي سيؤدي إلى هذه الغاية في ليلة من 1 إلى 2 مارس 2012 من خلال تنظيم مأدبة عشاء في منزل محمدن ولد البو في حي سوكوجيم "SOCOGIM PS"حيث استدعينا ما يناهز الثلاثين من الكوادر والمناضلين من حزب التكتل،كلهم حراطين و ليست من بينهم أية امرأة. تجدر الإشارة إلى أن هذه المبادرة لم يتم تنسيقها بأي حال من الأحوال مع قيادة حزب التكتل التي لم يتم إشعارها بها أصلا.
مع صديقي محمدن ولد البو ، شرحنا لضيوفنا تلك الليلة الغرض من الاجتماع والذي يمكن تلخيصه في النقاط التالية:
- يشكل لحراطين المكونة الرئيسية للشعب الموريتاني والتي تزداد أهميتها باستمرار. لذا يجب عليهم أن يكونوا واثقين من المستقبل وأن يدركوا إدراكا تاما و واعيا أن الحل الدائم لمشاكلهم لا يمكن تحقيقه إلا في إطار الإصلاحات المؤدية إلى الدولة الاجتماعية الراعية للمصلحة العامة و التي تقف على مسافة متساوية من الجميع؛
- ضرورة إخراج مسألة لحراطين من "غيتوهات" النضالات الفئوية أو الطائفية لأنها قضية عادلة يمكن أن تحصل على مساندة و مؤازرة المجموعة الوطنية بأسرها شريطة أن تدمج فيها جميع المواطنين الموريتانيين وتخطب ودهم كقضية اجتماعية ووطنية، يستفيد من حلها كل من هب و دب ؛
- انطلاقا من هاتين المسلمتين، أبلغنا الحضور بنيتنا تصور و تصميم وثيقة ستكون بمثابة مرجع لهذه المقاربة الجديدة والتي ستلخص المعاناة والظلم الذين عانى منهما لحراطين في موريتانيا و في نفس الوقت تقديم الاقتراحات والتوصيات الضرورية من أجل الخروج من هذا المأزق.
في الغالب، أشاد المتدخلون إثناء المناقشات التي أعقبت ذلك بالمبادرة وأكد جلهم على ضرورة أن تضع الوثيقة المرتقبة "النقاط على الحروف" و أن تسمي الأشياء بمسمياتها و أن لا تخفي أية حقائق.
قلنا لهم أننا جمعناهم للحصول على دعمهم و لنشركهم معنا في هذا الأمر من خلال مساهمتهم النشطة في جميع مراحل إعداد الوثيقة المزمعة و التي نخطط لتصميمها. قلنا لهم كذالك أن رأي كل واحد منهم مهم بالنسبة لنا لأنه يسمح لنا بقياس حيز من نبض الرأي العام الذي يمثلونه من أجل ترجمته في الوثيقة بحيث تكون عاكسة للرأي العام الوطني قدر الإمكان. بالإضافة إلى ذلك ، فقد وعدناهم بالعودة إليهم في جميع مراحل إعداد وكتابة الوثيقة من اجل التكملة و التحقق من صحة ما تم إنجازه وإجراء التعديلات عليه أو التصحيحات.
طلبنا في نهاية الاجتماع مساعدة متطوعين لدعمنا في لجنة تحرير الوثيقة المرتقبة. لم يتطوع أي من الحضور وظلت لجنة التحرير مقصورة على الثنائي الابتدائي.
بعد حوالي الشهرين من هذا الاجتماع الافتتاحي ، عقدنا اجتماعًا ثانيًا في منزل محمدن ولد البو مجددا، لتقديم المسودة الأولىة لعملنا خلال هذه الفترة.
نظرًا لحرصنا الشديد على حماية سرية هذا المشروع ولتجنب أية تسريبات أثناء فترة الإعداد، قررنا أن يبقى غملنا فقط في ذاكرة جهاز الكمبيوتر الخاص بي. أثناء الاجتماعات، أقرأ من جهاز الكمبيوتر الخاص بي النصوص التي أعددناها باللغة الفرنسية ويتولى زميلي محمدن البو مسؤولية ترجمتها إلى العربية والحسا نية للحضور. نسجل في كل مرة الملاحظات و الاستدراكات ولكننا كنا نهتم أكثر بجس نبض الحضور محاولين في كل مرة قراءة ما بين سطور المداخلات للكشف عن الغير معلن أو المسكوت عنه و فهم المقصود من كل تدخل و ذالك من اجل أن تعكس الوثيقة قيد الإعداد كافة مخاوفهم وآمالهم وتطلعاتهم بصدق وأمانة.
زادت وتيرة اجتماعاتنا بعد هذا الاجتماع الثاني وصرنا نعقد اجتماعا كل أسبوعين أو ثلاثة أسابيع . غالبًا ما تنعقد هذه الاجتماعات في منزل محمدن ولد البو وأحيانًا في منزل السفير بلال ولد ورزك. في كل مرة نقدم نسخة محسّنة بالأخذ بعين الاعتبار لنتائج الجلسة السابقة بالإضافة إلى ما أمكننا جمعه من بيانات إحصائية أو أفكار جديدة أو تحسينات على شكل أو مضمون الوثيقة. بحلول منتصف عام 2012 ، تم اعتبار الوثيقة شبه مكتملة و مقبولة للجميع. من هنا بدأ الانفتاح صوب مجموعات أخرى من لحراطين الذين نعتقد أننا نتقاسم معهم شيئًا ما. وزعنا على من يرغب في ذالك من أفراد المجموعة النسخة الفرنسية من هذه المسودة الأولى مع تعليمات للاحتفاظ بها لأنفسهم للقراءة والتحسينات الممكنة دون تسريبها للغير. فعلنا الشيء نفسه مع قادة لحراطين الذين اتصلت بهم مع زميلي محمدن ولد البو والذين شرحنا لهم مشروعنا وطلبنا منهم الاحتفاظ بالطابع السري للوثيقة التي دعوناهم لإثرائها وتحسينها قدر الإمكان. قبل الشروع في ترجمة الوثيقة إلى اللغة العربية ، تلقينا المساهمة الكتابية الممتازة للسيد جمال ولد اليسع. أرسلها إلينا بو بكر ولد مسعود الذي كان على اتصال به. وتجدر الإشارة إلى أن ستة أشخاص فقط هم من قدموا مساهمة مكتوبة، قلت أم كثرت، والتي تم دمجها في متن وثيقة الميثاق. لذلك فهم يعتبرون المحررين الوحيدين لهذه الوثيقة وهم: محمدن ولد البو ، جمال ولد اليسع ، إبراهيم بلال رمظان، إطاران ساميان آثرا عدم ذكر اسميهما ومحمد فال ولد هنضي.
قدم الكثير من الناس الذين هم غالبًا ما يكونون أميين أو ذوي مستويات تعليمية متدنية ، مساهمات شفهية قيمة بالأفكار أو النقد أو الاقتراحات أثناء إعداد الوثيقة و لكن الأطر الكثر ممن أتيحت لهم فرصة المشاركة في كتابة الوثيقة، لم يكلفوا أنفسهم للأسف عناء البحث او التفكير في إثراء هذه الوثيقة.
خلال مرحلة الترجمة من الفرنسية إلى العربية، تطوع عدد من الشباب للمشاركة في هذه المهمة. ومن بين هؤلاء المرحوم إبراهيم ولد السمير والعيد ولد محمدن وعبيد ولد إميجن. بعد يوم أو يومين من محاولة العمل في منزل المحامي العيد ولد محمدن، أدركت أنه لا يمكن المضي قدما في العمل في ظل هذه الظروف ... لذلك ، طلبت متطوعًا من المجموعة يمكنه الكتابة باللغة العربية على الكمبيوتر وأنا سأملي عليه الترجمة العربية للنص الفرنسي للوثيقة. تطوع عبيد ولد إميجن لكتابة الترجمة العربية للوثيقة. في اليوم الموالي، جاءني في المنزل عند منتصف النهار وعمل معي حوالي الساعة. خلال هذه الساعة، قام بوضع القالب العام للوثيقة باللغة العربية على جهاز الكمبيوتر الخاص بي وبدأ في كتابة مقدمة النص. رغم احتجاجاتي، غادر بعد تلك الفترة الوجيزة بحجة ضرورة احترام التزامات قطعها على نفسه و يجب عليه أن يفي بها. في اليوم التالي أمضى معي نفس المدة الزمنية تقريبا : حوالي ساعة. رأيت أننا لم نترجم خلال هذين اليومين إلا صفحة ونصف؛ وبهذه الوتيرة، قد نستمر لفترة طويلة... لذا قررت أن أعتمد على نفسي. اشتريت أحرف لوحة مفاتيح عربية و قمت بلصقها على جهاز الكمبيوتر الخاص بي واستمريت في ترجمة الوثيقة إلى العربية على منوال القالب الذي صممه عبيد. تفاجأت بأنني أتقنت بسرعة كبيرة الكتابة باللغة العربية على الكمبيوتر و التي لم يسبق لي أن مارستها من قبل. شكلت هذه الترجمة في نفس الوقت إعادة لكتابة للوثيقة. ففي كل مرة كانت تنضاف أفكارًا جديدة أو تنسق أفكار قديمة، ويتم تحسين أسلوبها أو ترتيبها ، ونقدم بيانات أو إحصائيات جديدة أو غيرها ، في النسختين العربية والفرنسية. بعد الانتهاء من الترجمة ، تم توزيع النسخة العربية على أعضاء المجموعة، إذ أن غالبتهم الساحقة غير قادرين على فهمها باللغة الفرنسية. تواصل الانفتاح على مجموعات لحراطين الأخرى بوتيرة متسارعة وهو العمل الذي كان قد بدأ قبل الشروع في الترجمة.
وهكذا بدأت المرحلة الثانية من هذا المسلسل الطويل والمتعب والمليء بالمطبات والمكائد و الحسابات البائسة والضربات تحت الحزام.
)تابع(
محمد فال ولد هنضي
رئيس ميثاق لحراطين