مرت ببلادنا هذه الأيام ذكرى الاستقلال وما يصاحبها من تأمل للحال وتقييم للماضي وتوقان للمستقبل ، وقد تسرب إلى البعض اليأس وإلى آخرين التشفي بمنطق ليس بالإمكان أفضل مما كان ...
.
ساهم في خلاصات التقييم سيف الزمن المنقضي وإلحاح مطلب التغيير الذي يفرضه ملل الجميع من الواقع المتردي ، كما أن علو سقف التوقعات المؤسس علي خطاب الترشح وعنوان برنامج الرئيس المنتخب (تعهداتي)
وقبل أن أدخل في الحديث تفصيلا أود أن أهمس في آذان الجميع بسؤال كبير وملح - ما البديل عن النجاح في هذه المهمة التي ابتلي بها السيد الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني اليوم؟ ، هل هنالك بديل جاهز وكم هي خسارة البلد بفشل مهمته ؟ كم سنخسر من عمر الدولة وكم سيضيع من زمن الأجيال القادمة؟ .
من المهم أن يدرك الجميع اليوم ضرورة التمسك بالأمل رغم كل الملاحظ باعتبار النجاح ليس لشخص بل لأمة ضيعت عقودا من الزمن وهي تتردى من فشل لآخر بعيدا عن الاتجاه المطلوب وانحرافا عن بوصلة الصواب .
إن الدارس لأحوال الدول ومؤشرات التنمية يدرك دون عناء أن سر تقدم الشعوب وراحة بال المواطن يكمن في الرقي نحو دولة المؤسسات ، وتلك من شروطها الأساسية التحول من دولة الوصاية والتحكم إلى دولة النظام والقانون التي تجسد إرادة الأمة والحكم بماتريد بعيدا عن تغول اللوبيات وتحكم الجهات النافذة ؛وساعتها فقط ينطلق قطار التحول نحو الأعالي.
إن المتتبع لحال البلاد يدرك ذلك جليا من حال كل الرؤساء الذين حكموا هذه البلاد وأخص بالذكر منهم العسكريين الذين فشلوا فشلا ذريعا في تنمية البلاد رغم إمكانية تحقيقها، ليخرجوا من بوابة الحكم مُنقلبا عليهم ،أو مبغوضين، تودعهم الفضائح وتحاصرهم الأزمات.
حكامنا ذوو النياشين لا تنقصهم -- في رأيي -- روح الوطنية ولا إرادة البناء وإنما يعوزهم -- ولم يدركوا فقده -- هو أن حكم التفرد لازمه الفشل فخطط التحول الناجح لا ينفذها المتملقون والجبناء ، والأفكار الخلاقة لا ينتجها غير أصحاب الرأي والبصيرة ، ولا يصبر على تطبيقها من لم يؤمن بها ، ومن لم يحترق من أجل الصالح العام لا أمل أن يكب عرقا من أجل الاخرين .
أما الجموع التي تسير في إذعان.. وتجعل الحكم غنيمة لزمرة تدور بينها المصالح ، وتستخدم عبقريتها في التعمية على من في الحكم الى أن يقع الفأس في رأس الحاكم والبلد والتاريخ ، فيضيع الوقت وتتبدد الثروة وتتلاشى فرص المجد والأجر ويحاصر الفشل ..
لقد ضيع بعض حكامنا فرص التوافق وتجنيد الأمة بكاملها لمعركة التنمية والبناء الوطني العسير ، متذرعين بعداوات اصطنعتها أجهزة التخويف وأصحاب الحدب على الكعكة الذين يكرهون القرب من السلطان لغيرهم كي لا تضيق فرصهم في الوظائف والامتيازات ولو على حساب الحاكم الذي يدَّعون الولاء له والتقرب من أعتابه وخدمة برامجه …
لقد ضيع معاوية في مطلع التسعينيات فرص الانطلاق الديمقراطي المؤسسي وذلك بالإصرار على تأسيس الحزب المحكوم به الذي لم يتجاوز الإحياء المشوه لهياكل تهذيب الجماهير وثقافة حزب الشعب مع غياب الشخصيات ذات الوزن والقدرة على الاقتراح والاعتراض عند الإقتضاء ..
ومن بعده كان إصرار المجلس العسكري على تكوين حكومة من نفس الدائرة التي ظلت في الحكم والابتعاد بها عن منطق التوافق والائتلاف ولقد كان ذلك كفيلا بالتباين وعدم التوافق على المخرجات .
ولقد سألني مرة السيد الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله رحمه الله وهو في دار الحق عن ما أراه أكبر خطإ في أيام حكمه فقلت له بدون تردد هو عدم إعلانكم عن حكومة وحدة وطنية يومكم الأول فيها يكون التوافق وتحصين فرص التحول .
أتيحت للرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز الفرصة وبمقتضيات اتفاق داكار أن يجند الأمة في حكومة توافقية لكنه رفض وأصر على الحكم منفردا.
و كان له ما أراد ولكنه لم يكن يدري بأن ترك الطبقة المؤثرة في المجتمع تنحت من عرض الحاكم وتشكك في النيات وتفضح الاختلالات كل ذلك سوف يؤدي حتما إلى ما وصل إليه يوم جر إلى المحاكمة من دون نصير ولا مدافع.
تنطلق خلفية التفرد والغلبة والانقلاب من أن الحكم غنيمة وأن على الآخرين ضرب رؤوسهم في الحائط ، بينما منطق المسؤلية والدستور يقول إن الحكم هو إدارة مقدرات الأمة والتحكم في خيراتها وأن لكل واحد من المواطنين حق يجب أن يتاح له.
إن الدول التي أقلعت مثل ماليزيا لبت شرطين أساسيين قبل الإقلاع الأول سياسي وذلك بالتأسيس لتوافق وطني بإيجاد برنامج مشترك لمجموعة الأحزاب المؤثرة في المشهد السياسي والتي حكمت لأكثر من نصف قرن .
الثاني هو أنهم أزالوا العقبات القانونية من طريق الاستثمار والتصنيع …
نعم نسمع أحيانا عن ضرورة المعارضة وبقائها بعيدا عن الذوبان في الدولة ومنطق الحكم وذلك قد يكون صحيحا لو كان في دول جربت التناوب عن طريق الصناديق وسبق أن وصل فيها للحكم من كان في المعارضة مناضلا ، أما الدول التي مثل بلادي تعاني من التأميم الكامل للسلطة والثروة والإمكانيات.
وهي بعيدة كل البعد عن فرص التغيير عبر الصناديق إذ تقف القوى المسيطرة على المشهد متحكمة فيمن يدلف إلى ميدان الحكم مانعة من أي فرصة في التأثير الحق في المشهد العام ،
الأمر الذي قد يفضي بدون خيار ثالث إما إلى قيادة حكيمة تستشعر المسؤولية وتملك جرأة القرار بالشراكة أو تظل كرة الغضب في تدحرج والشعور بالحيف يتراكم حتى تنفجر الاوضاع بدون استئذان في وجه الجميع .
إن لدى البلاد اليوم من الملفات الساخنة والمشاكل المعقدة ما يجعل من الضروري التفكير بعمق في حلحلتها بآليات جديدة وبتفكير حديث يتماشي ومقتضيات العصر
ومايزال الرئيس محمد ولد الغزواني يحوز من الفرص ما يمكنه من دور تاريخي لقيادة إجماع حول خطط الإقلاع الاقتصادي والاجتماعي …
لكن تضييع تلك الفرص سيكون خسارة محققة ليس لشخص الرئيس وفرصه في المجد والأجر فقط - بل هي خسارة لأمل طافح عم أوان وصوله للحكم من خلال ما راهن عليه غالبية أهل الجد والنضال الذين أعطوا للرئيس من الفرص والانتظار ما يجعل المسؤولية عليه مضاعفة ، في أن يكون عند حسن الظن ، ولن يكون ذلك بمجرد لقاءات عابرة مع هذا أو ذلك بل لا بد من ورشات رأي تعتصر الأفكار وقرارات حزم تجسدها على الأرض محدثة التغيير الذي ينشده الجميع.
إن من أهم الشروط لنجاح ذلك المطلب هو التفكير من داخل المربع الموريتاني وبروح الاستقلال الذي لن يتحقق والعين على ما سيقول عنا الاخرون سخطوا أم رضوا ..
فهل يكون الاستقلال اليوم فرصة ومرتكزا لتصحيح مسار الدولة، وشق طريق التوافق ،الذي بدونه تزول بركة الإخاء وسكينة العافية وروح الإجماع وبدونه تتبدد الوعود وتتلاشى فرص العدل وتعود حليمة الدولة لعادتها