يتداول المدونون هذه الأيام على نطاق واسع قصة وقعت لصديقنا الإداري اللامع الداه بن عبد الجليل تتعلق بمظهر بريءٍ من مظاهر مخلفات العبودية في البلاد و هو إذ ذاك والي ولاية گيدماغه.
.
و ذكرتني تلك الحادثة الغريبة ما حصل معي شخصيًا في كيهيدي عاصمة ولاية گورگول.
ذلك أنني عُيِّنتُ يوم الأربُعاء 16 يناير 1991 حاكما لمقاطعة كيهيدي فصادف استلامي للعمل بها إعادة تشكيل هياكل تهذيب الجماهير إبتداءً من الانتساب في الخلايا و انتهاءً بانتخاب اللجنة الجهوية على مستوى الولاية مرورًا بتنصيب اللجان في الأحياء و المقاطعات ، و كل ذلك كان يتم بإشراف السلطات الإدارية.
و لعل النظام كان يرمي من وراء ذلك التجديد إلى هدفيْن : أولهما استعادة الثقة المفقودة بين الإدارة و المواطنين بعد الأحداث المشؤومة لسنتي 1989-1990 ، و ثانيهما تجريب تجربة هياكل تهذيب الجماهير تمهيدا لاستفتاء 12 يوليو 1991 اللاحقِ المؤذن بانطلاق المسلسل الديمقراطي في البلاد.
و في إحدى الليالي المخصصة لتنصيب لجنة الحيِّ في "گتاگهْ " حيث يكاد ينحصر سكان السوننكيِ في مدينة كيهيدي،
تداعى الجميع إلى " چنگرهْ " و هي ذلك المكان العام الذي تلتئم فيه جماعة الحل و العقد من القوم لتتخذ أخطر القرارات المتعلقة بأمورها العامة.
كنا ليلتئذ في ضيافة الزعيم التقليدي للسوننكي و هو رجل الأعمال ذو الخلق الطيب محمدو كويتا رحمه الله و هو أخو الرئيس الأسبق للبرلمان يوسف كويتا و عم عمدة كيهيدي آنذاك صديقي تيجان كويتا.
و في صمتٍ مطبق و بهدوء منقطع النظير ، تم التصويت على لجنة الحي برئيسها و أعضائها ، و أعددْنا محضراً بالنتائج و هنأنا المسؤولين السياسيين في الحي و ذكرناهم بمسؤولياتهم الجديدة على ضوء التوجيهات الرسمية الواردة إلينا من القطاع الوصيِّ في الإدارة المركزية و هو الأمانة الدائمة للجنة العسكرية برئاسة العقيد محمد الأمين بن انچيان رحمه الله ، ثم ودعنا الحاضرين و انصرفنا من المكان.
و في الصباح الباكر من اليوم الموالي فوجئتُ بآلاف مؤلفة من المواطنين من السوننْكي خاصة تقتحم منزلي في صورة احتجاجية هادئة و لكنها صارمة .و بينما أنا أتشاور مع المصالح الأمنية في الموضوع إذْ أبصرت من بين المتظاهرين السكرتيرة الخاصة للمقاطعة فاستدعيتُها لأسألها عن السبب في هذا الاقتحام الباكر من مجموعتها المسالمة !و بجوابها الصريح حلَّ التعجب و الاستغراب محلَّ أي شيء آخر .إن السبب في هذه الانتفاضة المدوية المنطلقة مع بزوغ الشمس و المتجهة إلى المنزل بدل المكتب ، هو أن رئاسة مكتب حي گتاگه المشكل ليلة البارحة بحضور جماعة الأعيان ، قد آلت رئاسته بالتصويت طبعاً إلى عبدٍ من عبيد القوم .و ليتَ أمرُ الرئيس الجديد قد اقتصر على هذا الحد ، بل إنما تعداهُ إلى أشنع من ذلك إذْ أن نجاحه كان على حساب سيده المترشح باسم الجماعة الذي حطَّه التصويت قسراً إلى مرتبة دونية هي النائب لعبده الرئيس الجديد ! و بطبيعة الحال لم يجد المحتجون عناءً كبيراً في اكتشاف " المؤامرة الإنتخابية " المدبرة في جُنُح الظلام ضدَّ الجماعة النافذة من قبيلة السوننْكي و هي مؤامرة تم تدبيرها بالتمالؤ بين فئة قليلةٍ معارضة من المتحررين منهمْ و بين أسر معدودة من الهالبولار الذين أقحمهم التخطيط الجغرافي في صميم حيِّ گاتگا فأصبحوا فيه غرباء في حرية التعبير على الأقل في وسط منغلق على نفسه ، موغلٍ في المحافظة!
هذا و بعد أن اتضح لي الأمر بما يلفه من غموض ، سرعان ما توصلت إلى حل وسط مع المتظاهرين يقضي بفض اجتماعهم مقابل أن أستقبل مناديبَهم في المكتب لاحقا لمناقشة الموضوع.
و بإشارة خاطفة من قائد المظاهرة ، اختفى هؤلاء بأسرع من لمح البصر بالسرعة التي انتدبوا بها ممثلين عنهم حضروا إلى المكتب من بينهم جميع أعضاء مكتب الحي بمن فيهم الرئيس المنتخب و نائبه محلُّ الاعتراض.
و هكذا بدأنا المفاوضات حول موضوع لا سبيل فيه في ظاهر الأمر إلى التنازل و تفاءلتُ كثيرا بحضور رئيس الحيِّ الذي كنت أتوسم فيه أن يدعمني بمزيد من الحجج باعتباره الطرف المظلوم المتضرر خاصة أن لذلك سبباً مضاعفاً هو علاقته العضوية بالإدارة بصفته رئيس مصلحة جهوية من أهم المصالح اللامُمَركزة في الولاية. و لذلك سرعان ما استجبتُ لطلبه في الكلام ، لكنَّ دهشتي كانت كبيرة عندما قال إنه جاء بمحض إرادته ليصرح علناً بتنازله طواعية عن منصبه في السياسة لصالح سيِّده نائب الرئيس !و بإصراره على ذلك لم يترك أمامي من وسيلة سوى تحرير محضر بتصريحه و رفع القضية للسلطات الإدارية و السياسية العليا المختصة!
و لم تزل الجماعة المعنية تتابع باهتمام شديد مسار ذلك الملف في جميع مراحله حتى إذا ما اندلعتْ حملة إعلامية مسعورة ضدَّ النظام تؤججها تصريحات جهنمية في الإعلام الرسمي في كل من فرنسا و السنغال ، كادت أن تعود بالمنطقة إلى دوامة البلبلة و الإضراب لولا أن أعلن عن التوجه الديمقراطيِّ الجديد و عن تنظيم استفتاء وشيك على مشروع للدستور ، فجاءت عوارضُ سلمى دون ميٍّ عوارضاً و أيُّ عوارض هي تلك التي قلبت الأوضاع الوطنية كلها رأسا على عقب.
هذا و كانت الحملة الإعلامية المذكورة ممهدة لتنفيذ مضمون ذلك الخطاب الذي كان الرئيس الفرنسي ميتران قد ألقاه في مثل هذا اليوم أي 20 يونيو من سنة 1990 في مركز بلدية " لاَ بول " الفرنسية و اشتهر باسمها و طالب فيه بالإسراع في تطبيق الديمقراطية و ضمان الحريات الفردية و الجماعية للمواطنين و ذلك بمناسبة انعقاد الدورة السادسة عشرة ( 16) لمؤتمر رؤساء الدول الأفريقية و فرنسا و حضره آنذاك (37 ) رئيسا أفريقيا. .
رحم الله السلف و بارك في الخلف.
من صفحة الإداري والكاتب محمدن ولد سيدي الملقب بدن