لقد فقد شهر نوفمبر؛ الذي كان يمثل بالنسبة لنا طيلة ثلاثين عاما، لحظات من الفرح والإنتشاء، لحظات من الإحتفاء بالوحدة الوطنية والمصير المشترك القائم على الإسلام، لحظات نتذكر فيها الآباء المؤسسين والبناة،
.لحظات من الأمل في حياة أفضل.. فقد ـ إذن ـ كل جماله وكل فخره منذ 28 نوفمبر 1990 حيث حل الحزن واليأس محل الأمل. باتت فرحة الاستقلال والحرية ممزوجة بالمعاناة المعنوية ومآسي الفظاعة، في ذلك اليوم المشهود.
في شهر نوفمبر من عام 1990، سقط مئات من القتلى في صفوف إخوتنا الزنوج ألموريتانيين؛ مدنيين وعسكريين. عدة مئات من النفوس المؤمنة تم إعدامها دون أي سبب وجيه، أو ماتت تحت التعذيب. وتم إعدام البعض بدم بارد أمام الملأ، وعرضت جثثهم لفترة طويلة جدا أمام ذويهم الذين منعوا من تشييعهم؛ ودفن آخرون أحياء كما حدث في العزلات وفي اجريده. وتم شنق آخرين في إنال ورش تاشدبيت بمقاطعة روصو في كتيبة المظليين الأولى (1er BCP)، وآخرون تحت التعذيب في نواذيبو وغيرها.
كانت عمليات الاغتصاب لا تحصى، بعضها تمت أمام ذوي المعنيات، والبعض الآخر أمام أطفالهن. وكانت عمليات النهب والإذلال والضرب أمورا شبه يومية.
أما الضحايا في صفوف وحدات الجيش الوطني فكانوا أقل بقليل من ثلاثمائة، أزيد من نصفهم (154) في القبر الجماعي بإينال.. إينال التي تمثل رمزا خاصا حيث سقط فيها أول شهدائنا في ساحة الشرف خلال معركة 9 ديسمبر 1975، بمن فيهم المساعد الرئيس عبد الله سي الملقب لحرور من الدرك؛ وهو فونتاكي من غورغول، وأول شهيد من القوات المسلحة الوطنية، والرقيب محمد ولد محمدي ولد موسى (الرقم التسلسلي 4721 وهو محارب من تكانت وأول شهيد من الحرس الوطني. لقد قُتلوا خلال العدوان الغادر والمباغت من قبل الجيش الجزائري وبعض مرتزقة البوليساريو، وهو العدوان الذي أشعل حرب الصحراء التي فقدنا فيها ما يزيد على 2000 شهيد تناستهم الجمهورية.
الفاعلون معروفون جيدا
شكلت عمليات القتل الجماعي على مستوى الجيش الوطني موضوع تقرير يدين ثلة من الضباط. وقد سلط هذا التقرير الذي تم إعداده وفق القواعد الصحيحة ف مايو / يونيو 1991 من طرف لجنة متعددة مكونة من خمسة ضباط يرأسها القائد المساعد للأركان الوطنية؛ كل الضوء على تلك المجزرة. وقد كان رئيس الدولة، بعد قراءته للتقرير، في غاية السذاجة إذ كلف وزير دفاعه أن يبحث مع رئيس المحكمة العليا إمكانية حل داخلي ودي يتضمن عقوبات تأديبية مصحوبة بتعويضات مادية.
طرح وزير الدفاع عبر الرسالة رقم 0056 بتاريخ 17 يونيو 1991، سؤالين في غاية السخافة على رئيس المحكمة العليا هذا مضمونهما: "هل لدى قادة الأركان صلاحيات في مجال متابعة عسكريين ارتكبوا جرائم أو جنحا؟ هل يمكن للعقوبة التأديبية أن تحل محل العقوبة الجنائية؟".
وقد أصدرت المحكمة العليا، بجميع غرفها مجتمعة، خلال جلستها ليوم الإثنين 15 يوليو 1991، عبر المداولة رقم 91/95 رأيها على النحو التالي: "عدم اختصاص قادة الأركان في مجال متابعة العسكريين الذين يرتكبون جرائم أو جنحا وعدم الإمكانية بالنسبة لاستبدال العقوبة التاديبية بالعقوبة الجنائية".
في نوفمبر 1990 بالحرس الوطني، توفي العديد من الضحايا البالغ عددهم 16 فردا، تحت التعذيب. وخلال احتلال الضفة، في مقاطعة بوكي، أعدم حرسيون، بدم بارد، دركيا وعدة جنود من الجيش الوطني بالزي العسكري وفي وضعية نظامية؛ وبدلا من معاقبتهم تمت مكافأتهم. كما أبادوا في غابة باكاو عدة أشخاص بينهم نساء ورضيع.
في مقاطعة مقامة، بمنطقة سونغي لعبلي خلال سنوات الجمر تلك، زرعت وحدات الحرس الرعب عبر قطع رؤوس بعض الضحايا وكان عناصرها يستخدمونها لترهيب سكان القرى المتاخمة. وعلى مستوى الحرس الوطني، لم يجر أي تحقيق قط بشأن تلك المجازر، لكن الفاعلين المفترضين تم التعرف عليهم جيدا.
وللأسف فإن إحصائيات المجازر وعمليات الاغتصاب في صفوف المدنيين خلال احتلال الضفة لم يتم حصرها بشكل دقيق. وقد انقسمت المنظمات غير الحكومية المهتمة بهذا الملف، بلا وسائل وتم تغويلها؛ كما أن أصحاب الحق مازالوا خاضعين للترهيب.
الجرم الوحيد لضحايا تلك المجازر هو أنهم ولدوا من تكوكولور أو سوننكيي غورغول. فسنونكي غورغول؛ خلافا لسوننكي كيديماغا؛ الأكثر محافظة؛ كانوا يعتبرون بمثابة توكولور من طرف السلطة بسبب التلاقح والتناغم القائم بين هاتين المكونتين. ويبدو أن الهدف من تلك الإبادة (إذ لا يمكن تسميتها بغير ذلك) كان ترهيب "لكور" (عبارة متداولة تعرف الزنوج الموريتانيين)، من أجل حملهم على عبور النهر طواعية ليستقروا نهائيا في السنغال الذي يعتبره الإستراتيجيون القوميون للسلطة بمثابة الوطن الحقيقي لهؤلاء.
صحيح أن "لكور" تم ترهيبهم بشكل كامل لدرجة أنهم لم يعودوا يعرفون أين المفر، ولم يعد لديهم سوى أيدي يصفقون بها وأصوات يؤيدون بها، دون تحفظ، لحكام الأمس واليوم، الذين يحمون الجلادين عبر تشريع اللاعقاب. لكن من حسن حظ موريتانيا أن "لكور" لم يعبرو ـ بعد ـ نهر "صنهاجة"..
التصفية العرقية
ما يزال أقارب ضحايا تلك التصفية العرقية في حالة من الترقب. إن مستقبل موريتانيا أغلى من حياة جميع الضباط، دون أي استثناء؛ العاملين منهم والمتقاعدين، أحرى حياة ثلة من الضباط القتلة الذين يرتهنون منذ ربع قرن، عدالة شعب بأكمله، معرضين كل الجمهورية للخطر، والذين يشكل أبسط تعاطف أو شفقة تجاههم، في حد ذاته، ذنبا عظيما.
منذ 25 عاما والمتابعات القضائية بحق مرتكبي تلك المجازر معلقة والقضاء معطل، بمباركة الكثير من علماء ووجهاء الجمهورية الإسلامية الموريتانية.
منذ ربع قرن وأصحاب الحق محرومون من العدالة من قبل هؤلاء الدكتاتوريين العسكريين المتعاقبين والمتشابهين، مدعومين من البعثيين والناصريين في تبادل للأدوار. منذ 25 عاما لم يحصل أهالي الضحايا حتى على حقهم في الحزن على موتاهم، ولا في الهمس بأسماء مئات شهدائهم، ولا في التعبير عن حزنهم العميق ولو سرا، ولا في الترحم علنا على أرواحهم. ومع ذلك فإن جميع المتهمين بارتكاب تلك الجرائم معروفون وما يزال الكثير من الشهود أحياء ومستعدين للشهادة لله أمام المحاكم المختصة.
لقد تم إيقاف كل الإجراءات من قبل أول برلمان منبثق عن الديمقراطية العسكرية، والمكون ـ في غالبيه ـ من قبليين من العرب البربر والزنوج الوريتانيين من ضمنهم علماء؛ صوتوا ـ بالإجماع ـ يوم 14 يونيو 1993؛ بإيعاز من رئيس اللجنة العسكرية للخلاص الوطني / عهد جديد؛ بعد أن خيب أملَه رد المحكمة العليا في يوليو 1991؛ على القانون رقم 23 ـ 93 المتضمن للعفو والذي يشرع اللاعقاب والاستبداد، وهذا مضمونه:
المادة الأولى: تم منح عفو تام وكامل:
1/ لأفراد القوات المسلحة وقوات الأمن مرتكبي المخالفات التي وقعت بين فاتح يناير 1989 و 18 إبريل 1992 والمتعلقة بالأحداث التي جرت داخل هذه القوات وأسفرت عن أعمال مسلحة وأعمال عنف.
2/ عن المواطنين الموريتانين الذين ارتكبوا مخالفات إثر الأعمال المسلحة وأعمال العنف والإذلال التي قيم بها في نفس الفترة.
المادة 2: إن أية شكوى، أي محضر وأي وثيقة تحقيق ذات صلة بتلك الفترة وتتعلق بشخص مستفيد من هذا العفو، سيتم حفظها دون متابعة.
إن قانون العفو هذا، المصادق عليه من قبل تلك الجمعية الأحادية، المنتخبة في الظروف التي نعلمها؛ والتي لم تكن أكثر شرعية من اللجنة العسكرية وتتكون من "نواب" الموافقة التلقائية؛ من ضمنهم من هم أكثر عسكرة من العسكر، ويقودهم ضابط، عضو سابق في اللجنة العسكرية، وزير سابق للداخلية من أجل تناغم الأوتار دون شك؛ لاغ وباطل. خاصة فيما يتعلق بمرتكبي جرائم الدم إذ يخالف الشريعة التي هي أساس التشريع الموريتاني بنص الدستور.
وحدهم أولياء الدم يمكنهم العفو، وفقط في إطار القصاص. أما حالات الحدود فلا يمكن أن تكون موضوع مسامحة ولا عفو، ويجب أن تطبق فورا. لقد تم توشيح ضباط ارتكبوا مجازر، وذلك في مناسبات 28 نوفمبر. وتوشيح الجلادين يعني تشجيع الإفلات من العقاب، تشويه التاريخ، زيادة إضفاء مزيد من النحس على هذا اليوم الخالد، الإساءة أكثر لذكرى شهدائنا، إهانة وإيلام أصحاب الحقوق، وتأجيل كلمات من قبيل المصالحة الوطنية ومن قبيل العدالة باختصار.
في يوم 28 نوفبر 2015، وبما أن الفعاليات المخلدة للذكرى الـ 55 تم تحويلها إلى نواذيبو؛ فسيتم الحفل الوطني قرب البحيرة الرئيسية لدماء شهدائنا، من النقطة المركزية للوحشية. ستجري على بعد 255 كلم من إنال، رمز الفظاعة وعنوان المذبحة، ذكرى الاحتفالية الرسمية لشنق جنودنا الغالين الـ28، تجسيدا للإبادة.
ستجري في مركز قيادة المنطقة العسكرية الأولى؛ المسؤولة عن المجزرة. ستجري في نواذيبو، عاصمتنا الاقتصادية الملطخة هي الأخرى بدماء عشرات من شهدائنا الذين سقطوا في شهر نوفمبر 1990. هذه السنة سيتم رفع علمنا الوطني رسميا وبشكل علني بحضور رئيس الدولة، وأعضاء الحكومة والشخصيات السامية، وسط بركة من دماء إخوتنا الشهداء.
يوم شاحب
يوم شاحب
لم يعد بإمكان الـ28 من نوفمبر أن يشكل عيدا وطنيا لشعبنا. لا يمكن أن نحتفل بذكرى قتل شهدائنا الـ28 الذين تم شنقهم في هذا اليوم الخالد. فقد لطخ دمهم للأبد ذكرى استقلالنا وشوه علمنا الوطني. لا يمكن أن نحتفل بشنق مجموعة بكاملها، ثقافة بكاملها. لا يمكن أن نحتفل بشنق الإنسانية جمعاء. إن دماء أولئك الرجال المؤمنين الذين تمت التضحية بهم مثل الخراف يوم 28 نوفمبر 1990، على أيدي إخوتهم في السلاح وسط احنفاء لا يصدق؛ تستدعي ضميرنا الديني، ضميرنا الوطني، ضميرنا المدني، ضمير وطنيتنا..
إن الرد على المذبحة، وبالخصوص تضحية إينال، يجب أن يكون مسؤولا ويساهم في تهدئة النفوس وفي تعزيز الانسجام الوطني، الروح الوطنية وفوق ذلك تقوية الإيمان بالله، بعد أن تتحق العدالة. إن تجاهل الإبادة هو أسوأ من الإبادة نفسها. رجاء لنبك 28 نوفمبر. لنفرض الحقيقة. لنفرض العدالة.. لنبك.. لنبك..
كذلك في يوم 28 نوفبر 2001 سلمت موريتانيا المواطن محمدو ولد صلاحي، وهو مهندس لامع في المعلوماتية، للولايات المتحدة الأمريكية في خرق صارخ لدستورنا. ويقبع هذا البريء منذ خمسة عشر عاما في زنازين أكبر قوة في العالم، التي تبقيه سجينا خارج أرضها كي تخادع عبر الإفراط في التجاوز، رغم تبرئته من طرف القضاء الأمريكي. وقد زاد ذلك التسليم المشين من تلطيخ هذا اليوم الخالد.
يمكن تخصيص يوم 25 نوفمبر، الذي ما يزال سليما، للعيد. فهو تاريخ إنشاء قواتنا المسلحة، أول إنجاز للسيادة الوطنية لبلدنا. يمكن تخصيص هذا اليوم للفرح بالإستقلال والحرية، بخطاباته، موسيقاه، أناشيده، احتفالاته الرسمية، عروضه، حفلات رفع الأعلام فيه. ونعلن يوم 28 نوفمبر كيوم للشهداء أو يوم للانسجام الوطني، لتقاسم المعاناة المعنوية والأسى مع جميع من عانوا أو يعانون من فظاظة بني وطنهم.
نستذكر ونترحم على ضحايا الإبادة وشهدائنا الـ2000 المنسيين الذين سقطوا ممسكين بسلاحهم دفاعا عن حوزتنا الترابية بين 9 ديسمبر 1975 و 2 يوليو 1979، وخاصة الـ28 الذين تم شنقهم في ذكرى الاستقلال. سيكون 28 نوفمبر يوما للدعاء، للترحم والعفو من أجل انسجام أفضل، وئام وطني أفضل.حتى لا يتكرر ذلك الجنون.
إن الجراح التي سببتها الإبادة عميقة ولايمكن أن تندمل إلا بعد محاكمة عادلة وشفافة، تفضي إلى تعويض إداري عن المعاناة التي عاشها ذوو الحقوق طيلة 25 سنة من الترقب. يجب أن يعرف الشعب كل الحقيقة، ولاشيء غير الحقيقة بشأن نلك المجزرة. أما محاولة طمر تلك المذبحة فأشبه بمحاولة إخفاء الشمس.
إن المقاربة الخجولة التي اختارتها السلطة القائمة لتسوية مشكلة تلك المذابح عبر توزيع فتات على ذوي الحقوق لها نتاج عكسية. ثم إن الخلط الذي سببته إضافة أسماء مرتكبي الإنقلابين الفاشلين الدمويين في 16 مارس 1881 و8 يونيو 2003 إلى قائمة ضحايا الإبادة أمر غير مقبول وسخيف. أما صلاة كيهيدي فأشبه بالاستفزاز منها بالتهدئة.
لا يمكن تحقيق وحدتنا الوطنية ما لم يتم إنصاف ذوي الحقوق. وأقارب الضحايا مستعدون للصفح. لكن عن ماذا يصفحون؟ عمن يصفحون؟ كيف يصفحون؟ من غير المنطقي طلب الصفح قبل إحقاق العدالة.
يتبين مما سبق أننا ـ في غالبتنا ـ مسلمون غير ملتزمين، مواطنون لجمهورية نصف علمانية في طريقها إلى الاختفاء، يقودها منذ 10 يوليو 1978 حكام غير مسؤولين وخارجون على القانون. فالله نسأل أن يحمي وطننا موريتانيا الغالية. اللهم ارزقنا عينين تبصران الأفضل، وقلبا يصفح عن الأسوأ، وعقلا ينسى الشر، وروحا لا تفقد الإيمان أبدا.
بقلم العقيد (متقاعد) عمر ولد بيبكـر