جاء في نشرة الحوليات الاستعمارية، العدد 96، الصادر بتاريخ 23 يونيو 1927، تحت عنوان: "الهجوم على نواذيبو" (المعروفة في الوثائق الفرنسية بـ"بور أتيان") ما نصه: "قام فيلق كبير، قادم من الساقية الحمراء بـ 80 راحلة وأكثر من 100 محارب، بالهجوم على نواذيبو. كان على رأس هذا الجيش ثلاثة من أكثر المتمردين الموريتانيين جسارة: الشيخ ولد لجْـرَبْ الذي اغتال طياري خطوط لاتيكوير، ومحمد المامون، أخ وجاهَ الذي كان قد هرب من سجن أطار منذ أكثر من سنة، وأحمد ولد حمادي، زعيم عصابة معروف.
.
كانت الحامية العسكرية قد تم إنذارها بطلقة نارية، فدخلت مع المتمردين في معركة لم تنته إلا بعد عدة ساعات. وفي الأخير انسحب المعتدون ليعيدوا تشكيل أنفسهم على بعد كيلومترات من نواذيبو منتهزين فرصة الفترة السانحة للهجوم مجددا.
لنذكر بأن بور آتيان (نواذيبو) تعرض السنة الماضية لهجوم على يد عصابة متمردين استطاعوا الولوج إلى داخل توسعة مباني الحامية العسكرية، ولم يتم صدهم إلا بعد معركة طاحنة".
وجاء في صحيفة "لو تان" (الزمان) الفرنسية، الصادرة يوم 26 يونيو 1927، تحت عنوان "الأمن في موريتانيا" ان "المعلومات التي تصل من مختلف أرجاء موريتانيا غير مُـطـَـمْئنة. ونحن ننتظر إيضاحات حول هجوم حاوله متمردون معروفون يوم 13 يونيو على حامية نواذيبو. هذا الحادث شبه مؤكد إذا ما نظرنا إلى حجم الشائعات التي تتردد منذ أسابيع وإلى مستوى التدابير التي اتخذتها السلطات الإدارية هناك. وقد صرح لنا السيد شربونيي، رئيس دائرة المذرذره، الذي التقيناه خلال زيارة قادته لباريس، انه قبـْـل مغادرته إلى فرنسا نصح قبائل دائرته بمضاعفة الحذر والاستعداد للاشتباك عند أي إنذار. والحقيقة أنه ليس أول هجوم يتم على حامية نواذيبو. ففي يوم 26 مارس 1924 صد الضابط أول لورمير اقتحاما هائجا من ضمن اللائحة الطويلة لجملة المعارك الدائمة التي يرغمنا عليها البيظان: معركة الشيرك في نوفمبر 1913، معركة بوكرن في مايو 1924، معركة لكديم في اكتوبر من نفس السنة، والمعركة الضخمة التي شهدتها اطريفيّه في شهر ابريل 1925 وسقط فيها ببسالة النقيب دوجيرفال الذي انتقم له الموالي ولد كركوب إذ لقــّـن، مع الموالين لنا في آدرار، درسا شرسا للمعتدي محمد المامون.
كانت الوضعية جد مقلقة لدرجة أنها استدعت اجتماعا خاصا في مراكش، تحت رئاسة الجنرال دوغان، بين ممثلين عن الإدارات الاستعمارية في المغرب والجزائر وموريتانيا، بغية القيام بعمل مشترك.
من أجل فهم أهمية هذه القضية، يجب الإطلاع على مختلف عناصرها، فحامية ميناء آتيان (نواذيبو)، المكونة من 80 إلى 100 سينغالي يقودهم ضابطان فرنسيان، عاجزة عن أي تحرك خارجي، ولا تمكنها مطاردة المهاجمين الذين يستطيعون، بكل بساطة، أن يعيدوا الكرة. وإن حظ هذه الحامية الوحيد هو أن يكون فيلق جمّالة الترارزه ينتجع غير بعيد في المنطقة، أو أن يكون بالإمكان إنذار القبائل الموالية في الوقت اللازم. المسؤولون عن الشغب هنا هم، بالدرجة الأولى، أهل الشيخ ملعينين، أبناء الشيخ الشهير الذي هزمه الجنرال غورو سنة 1910 قبل أن يلتقيه مجددا سنة 1911 في المغرب، والذي أذقنا ابنيـْـه الهيبه وامربيه ربُّـو شر الهزائم لعديد المرات. ويبدو أن الهجوم على نواذيبو كان بتأثير مباشر من هذه الأسرة، لأن قائد الهجوم ليس إلا ابن عم امربيه ربو، الزعيم الحالي للأسرة، وهو يدعى محمد المامون أخ محمد تقي الله ولد اعلي الشيخ الملقب وَجـَـاهَ: تاجر قديم أفلس في آدرار، وأصبح سنة 1922 زعيما للمتمردين قبل قتله في معركة بوغار، ليتزعم بعده محمد المامون الذي حقق عدة انتصارات من بينها أنه سحق بشراسة، في آزويكه، سنة 1925، قافلة تموين ومثــّــل بسائق أوربي فيها، كما قتل في اطريفيّه النقيب دوجيرفال، قبل هجومه الثاني على حامية نواذيبو حيث تعرض كأخيه لهزيمة نكراء. الزعيم الثاني للمتمردين هو أحمد ولد حمادي من قبيلة اركيبات (ارْكَــيْبْ الكافْ، فخذ السواعد). أما الزعيم الأخير من هذا الثلاثي فهو الشيخ ولد لَـجـْـرَبْ من قبيلة ارْحَـاحْــلــَـــه. إنه مغامر بسيط، ورقيب سابق في حرس الجمّالة (كومياتْ)، اختار التمرد في مرحلة لاحقة. وسُجن في أطار عن مخالفة غير خطيرة. طلب من الإدارة الاستعمارية أن تكتتبه ضمن مفرزة مكلفة بمطاردة قاتل فار في جيوب آدرار. غادر مع المفرزة، وتقدم أمامها، فالتقى بالمجرم، فحالفه، ثم قتله ليسرق مدفعه، ومنذ ذلك التاريخ وهو يلعب دور قائد لبعض العصابات التي تعادينا. إنه هو بالتحديد الذي التقى، بعد إغارة في رأس تميريس، بالطياريْن الفرنسيين كورب وأيرابل وقتلهما دون سبب".
وكتب أوليفيي فرنيو، في بحث له بعنوان "غرقى الجو": أنه "في بحر العقد 1920-1930 مشى طيارو خطوط لاتيكوير، رغمًا عنهم، على خـُـطى الطيارين غير المحظوظين الذين غرقوا في البحر. إن لـ"غرقى الجو" نصيبهم الكبير في أسطورة الطائرات البريدية للطيارين سان أكسبيري ومرموز واغيومي وغيرهم.
كان على خط الدار البيضاء-دكار أن يُـحـَـلــّــق حتما فوق مسافة 1500 كلم عبر منطقة غير آمنة إطلاقا. وفي سنة 1922، زارت الميدان بعثة تمهيدية بقيادة السيد روغ لربط علاقات بالقبائل ولشرح الطابع السلمي لتحليق الطائرات المحملة بالبريد. كان روغ قد تصور حيلة قانونية: خطوط لاتكوير الجوية ستستأجر من البيظان حق التحليق من فوق السواحل التي يعتبرونها ملكا لهم مقابل مبلغ مالي. غير أن إدارة الخطوط في تولوز أبعدت هذا الحل خوفا من خلق وضعية لا فكاك منها وخشية احتمال المزايدات. بينما يعيد الملاحون هذا القرار إلى بـُـخل الشركة. ولما وُضعت الفدية الوقائية جانبا، ظلت المشكلة قائمة. لذلك فإن قلق الملاحين لم يكن يضاهيه غير عدم ثقة القبائل غير المكترثة بالطابع السلمي لطائرات النقل والمهة الرائعة التي يؤديها البريد الجوي. وتمثلت إجراءات الحيطة الوحيدة في جعل طائرتين تحلقان معا (بدل طائرة واحدة). عند بداية استغلال الخط كانت النتيجة مدوية. ففي يوليو 1925 أصيبت طائرة روزيس وفيلْ بعطب فوقعا في الأسر لدى اركيبات. بعد إرعابهما، وخوفا من أن يتم سَبـْـيُـهما، قتلا ثلاثة رجال من اركيبات وهربا في المركبة البريدية التي تمكنا من تشغيلها. هذا العمل لا يبشر بالخير مستقبلا.
وكجزء من تدابير الحماية، تقرر أن لا يغادر الملاحون على متن أية طائرة بريدية إلا رفقة ترجمان شلحي أو عربي. قامت إدارة الخطوط، بالتعاون مع مصالح الاستخبارات الفرنسية بتيزنيت، بتوقيع "اتفاقية أكلو" التي بموجبها يتكفل القائد حسن بانتشال كل السبايا مقابل تعويض. فالكثير من عمليات الهبوط الاضطراري وقعت قرب تيزنيت: الملاح رين يوم 21 دجمبر 1925، والملاحان بيفو ولوجيفيير يوم 17 اكتوبر 1926، والملاح فيدال شهر نوفمبر 1928، وكثيرا ما يعود الطيارون إلى تيزنيت بعد دفع فدية. أما بالنسبة لغرقى الجو داخل عمق الصحراء فإن السباق والتنافس لعبا دورهما في المشهد. ففي مايو 1926 اشترى الإسبان المقيمون عند رأس جيبي (الطرفايَه) الملاح ميرموز وترجمانه المسبيان من قبل أهل الشيخ ملعينين بفضل الجهود الجبارة التي بذلها محمد الأغظف. وكان ملاحون آخرون أقل حظا. لقد كانوا ضحية لجو الحرب الناتج عن مقاومة القبائل للولوج الفرنسي. فمثلا كان حظ أرابل وبينتادو وغورب سيئا عندما التقوا، في شهر نوفمبر 1926، بالشيخ ولد لجرب الهارب من الخدمة العسكرية لمجموعة مجندي آدرار منطلقا في كفاح محموم ضد الفرنسيين. هكذا قتل ولد لجرب أرابل وبينتادو وجرج غورب الذي تم شراؤه لكنه مات، بعد ذلك بفترة وجيزة، عندما كان يحاول الانتحار وهو في حالة أسر. في يونيو من السنة الموالية، وبنفس الطريقة، قتل رجال من لعروصيين ثلاثة صيادين كناريين اشتبهوا في أنهم فرنسيون. كان القتلة حينها عائدين من عملية شهيرة ضد حامية نواذيبو. كما قدمت فدية مقابل ملاحين آخرين. لكن أشهر عمليات أسر الملاحين هي تلك التي راح ضحيتها الملاحان رين وسيرْ اللذان اعتقلهما اركيبات شهر يونيو 1928 مما فجر أزمة دبلوماسية حقيقية بين فرنسا وإسبانيا وأدى إلى انطلاق مفاوضات شاقة بين الطرفين، لأن اركيبات المعادين لفرنسا طلبوا مقابل الملاحين أسلحة وأعيرة وسجناء ومئات رؤوس الإبل. هذه القضية، التي قدمت خلالها السلطات الاستعمارية الكثير من التنازلات، كانت أهم سبب في تغيير السياسة الفرنسية تجاه اركيبات".
في الوثيقة رقم 760 بعنوان "مشاريع ومقترحات وتقارير" لمجلس الشيوخ، في دورته الاستثنائية سنة 1928، ورد أنه "خلال شهر يوليو فاجأ محاربونا، من قبائل آدرار الموالية وحرس البيظان النظامي، 300 متمرد يترأسهم أخ وجاهَ الذي قــَـتــَـل بوحشية أفراد قافلتنا. خلال المواجهة مات من المتمردين 70 شخصا وخسروا الكثير من البنادق والجمال وفر حـُـطامهم إلى الساقية الحمراء. هذه الضربة القاسية فاجأت أعداءنا لكنها لم تثبط عزائمهم، فقد علم ضابط الصف اغرافيل أن عدونا القديم إسماعيل ولد باردي يرتب في كديتْ اجـّـل للقيام بهجوم واسع، فاستبقه بالإغارة على حيه فغنم منه جزءا من جماله. وفيما كان أحمد ولد حمادي يقود عصابة من النهـَـبَـة على بعد 100 كلم شمال أطار، حلقت فوقه طائراتنا فأصابه الفزع وهرب على الفور. أما سنة 1927 فكانت أكثر هدوءا، رغم أن الشيخ ولد لجرب، الذي قتل ملاحي المركبة البريدية، حاول مرات، ودون جدوى، سلب رعيـّـتنا الموالية في منطقة الترارزه، إلا أن وحداتنا النظامية والمحاربين الموالين لنا تغلبوا عليه في كل مرة وقتلوا من عناصره 12 شخصا واعتقلوا 21 أسيرا".
من جانبها، أوردت جريدة "لو ماتين" (الصباح) في عددها 15835 الصادر يوم 28 من شهر يوليو 1927، عنوانين بارزين: أولهما "فيلق قطاع الطرق الذي هاجم نواذيبو تم تشتيته"، وثانيهما "جاب فيلق المتمردين 1000 كلم في موريتانيا مقاتلا دون أية هدنة قبل أن يحطمه أمير الترارزه". وفي التفاصيل أوردت الصحيفة الفرنسية ما نصه: "في ضحى يوم 23 يونيو أعلن عن قرب مقدم محاربين متمردين على رأسهم الشيخ ولد لجرب قاتل ملاحي خطوط لاتكوير، ومحمد المامون الهارب من سجن أطار، وزعيم العصابات المخوف أحمد ولد حمادي. وفي صبيحة يوم 3 يوليو علم أن المحاربين أنهوا استعداداتهم وبدأوا التوجه نحو بور أتيان (نواذيبو).. إنه فيلق يتجول تائها داخل مستعمرتنا. ومن المحتمل أنه سينهب الأحياء الموالية لنا ويفر نحو الساقية الحمراء حاملا معه أسراه وغنائمه. ما كنا نتوقعه حصل بالفعل، ففي يوم 24 يونيو كان المتمردون على بعد 200 كلم شمال مدينة سان الويس فسقطوا صدفة على مجموعة من أهل الشيخ سعد بوه، فاغتصبوا منها 300 رأس من الإبل والكثير من العبيد، ثم توجهوا ناحية الشمال، لكن لسوء حظهم أنهم في الطريق التقوا بالأمير التروزي الموالي لنا فاصطدم بهم لينتزع منهم الكثير من غنائمهم ويدفعهم إلى الفرار شمالا صوب الساقية الحمراء حيث يجدون الأمان. وفي طريقهم هاربين ذبحوا 3 مواطنين إسبان كانوا يصطادون عند رأس تميريس. غير أن الأمير التروزي واصل تعقبه لهم، ولحق بهم فحاصرهم بمساعدة عدة قبائل خاضعة لنا. فقــُـتل محمد المامون على يد الشيخ ولد مكناس الذي عاد إلى نواذيبو حاملا معه قبعته الملطخة بالدماء (كشاهد على قتله له). وفي نفس المعركة قــُـتل الشيخ ولد لجرب: قاتل ملاحي خطوط لاتكوير. وسرعان ما انهزم النهَبـَـة وتم إلقاء القبض على أحمد ولد حمادي: آخر زعمائهم، وهرب الباقون فاحتموا بجبل إيبي 50 كلم شمال أطار. هكذا تم تحطيم فيلق المتمدرين بعدما قطعوا مسافة 1000 كلم داخل موريتانيا دون أية هدنة وفي أقل من شهر".
ملاحظة:جميع المعلومات الواردة في هذه الزاوية منقولة مباشرة من المصادر الاستعمارية فهي كتابة للتاريخ من زاوية واحدة ومن وجهة نظر الغالب لذا وجب التنبيه
ترجمة صحيفة نواكشوط