حين كان الراحل في السلطة، وفي صدارة المشهد الوطني، كنت في ريعان الطفولة، وبالتالي لم تتشكل في مخيلتي عن أيامه القصيرة في "قصر أم ركبة"، أي صورة ولا انطباع، سوى ما خزنته الذاكرة من ترديد اسمه من قبل الإذاعيين، في خضم نشرات أخبار لم أكن بالتأكيد، أدرك في تلك المرحلة الكثير من مضامينها
.سأعرف لاحقا، أنه انسحب بمحض إرادته من السطة، في خضم صراعات أطراف اللجان العسكرية التي "تداولت" الحكم بعد العاشر يوليو 1978.
ترك الرجل أعلى منصب في الدولة، فيما رفقاء السلاح يتهارشون على المواقع والمكاسب، وطلق مباهج الحياة، معتزلا الأضواء، قبل أن يطالعني ذكره لاحقا، ينتجع بكل زهد وبعد عن حياة المدينة، في بعض مناطق إكيدي، في أحد مواسم الخريف البعيدة، مجسدا بذلك القطيعة مع عالمه الأول.
وسأعرف بكل تقدير، أنه سعى لدى خلفه في القصر الآجري الرئيس محمد خونا ولد هيدالة، للعفو والصفح عن منفذي محاولة انقلاب 16 مارس 1981، وحثه على حقن الدماء، وتجنب خلق سابقة سيئة في تاريخ البلد، بإعدام رفاق تشارك معهم، لحظات صعبة في ميادين حرب الصحراء، ومعارك التأهيل الذاتي للممارسة السلطة.
وسيظل الناس يتناقلون بإعجاب صورا من زهده وحرصه على الطاعات والمواظبة على الصلاة في المساجد، والقطيعة التامة تقريبا مع كل ممارسة سياسية.
وكم كنت سعيدا حين أتيح لي أن التقي الراحل شخصيا، ووجها لوجه، في سياق واحدة من اللحظات المفصلية في تاريخنا السياسي المعاصر، يوم وقع أول انتقال سلمي للسلطة في تاريخ البلاد، خلال حفل مهيب بقصر المؤتمرات اليتيم يومها، بين رئيس المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية المرحوم اعلي ولد محمد فال، والرئيس السابق سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، أطال الله عمره.
يومها جيئ بالراحل، ضمن شهود كبار، لبصم تلك اللحظة التي جاءت ثمرة مسار انتقالي ناجح، رغم بعض الهنات هنا وهناك، وكان هو وحده بين أولئك الحضور من يحقه له، أن يكون في صدر المجلس، لأنه أول من مارس الفعل الذي نجتمع من أجله، والفرق، أنه قام بذلك في ظرف دولي وإقليمي خاص، خال من أي ضغوط للتوجه نحو مدنية الحياة السياسية.
كانت عمامته البيضاء، وسمته الوقور، من شذرات ذلك اليوم الذي لاينسى.. والذي كنا نحلم بكل "تبهليل" أنه سينقلنا إلى حياة مدنية عادية، نودع فيها دون كبير أسى، حقبة التردد والارتباك والعيش في ظلال الأنظمة الهجينة..
رحم الله الراحل الكبير، وألهم موريتانيا طريق السداد والوداد.