عندما أعلن استقلال موريتانيا فجر الثامن والعشرين من شهر نوفمبر سنة 1960 في انواكشوط لم يكن يوجد هنا على الإطلاق ما يدل دلالة قطعية على استقلال وطن وإقامة دولة؛ اللهم إلا إذا كان وضع حجر أساس العاصمة الذي جرى قبل ذلك بأشهر، وبضع ورشات بناء متواضعة متناثرة. وكان كل شيء بيد فرنسا ما عدا إرادة الرعيل الأول الراسخة في جمع الشمل وإنجاز الاستقلال وبناء دولة بما تيسر؛ والتي تجلت ملامحها واضحة في مؤتمر ألاگ!
.كانت حكومة موريتانيا والمصالح الجنينية التابعة لها ما تزال يومئذ جاثية في مدينة سان لويس السنغالية. وكنا عالة في كل شيء على فرنسا والسنغال، ومهددين في وجودنا من طرف المغرب الذي يعتبرنا جزءا لا يتجزأ منه، وأغلبية شعبنا الساحقة بداة رحل خارج التاريخ، والإمكانيات شبه منعدمة، لحد أنه لا يوجد في أرضنا الشاسعة كيلو متر واحد معبد؛ والعرب - إلا تونس- يجفوننا ويقاطعوننا إرضاء للمغرب!
ولما أصر الرئيس المختار - رحمه الله- على الانتقال بما لديه إلى انواكشوط وهي واد غير ذي زرع، كانت نواة الدولة التي جلب معه متفرنسة كليا وخاضعة في كثير من شؤونها لتدخلات قاطن القصر الغربي! وبالتالي فهي متناقضة تناقضا موضوعيا حادا وشبه عدائي مع المجتمع العربي الإسلامي البدوي العالم صاحب الأرض والمصلحة من جهة، ومع إرادة الحرية العاتية التي تجتاح العالم يومئذ من جهة أخرى!
أما المعارضة الموريتانية التي من سماتها التليدة بطء فهم واستيعاب المستجدات السياسية، فقد انقسمت بعيد إعلان الاستقلال - الذي شككت فيه وقاومته- إلى فريقين حاور أحدهما النظام الجديد والتحق به حارقا سفنه، والتحق الثاني بالمغرب وتبنى الإرهاب نهجا لتحقيق أهدافه. فأصبحنا بلا معارضة!
وفي تلك الفترة كانت صرخة الرئيس جمال عبد الناصر الداعية إلى الحرية والاشتراكية والوحدة مدوية في جميع أرجاء العالم رغم انهيار أول وحدة عربية رائدة بين مصر وسوريا، وما نتج عن ذلك من إحباط. وكان حديث محمد حسنين هيكل الأسبوعي "بصراحة" مائدة جميع المثقفين الشباب في أرجاء الوطن العربي!
تلكم كانت سمات الوضع البارزة غداة عودتي من تونس في صيف سنة 1962. وبدلا من أن أعين قاضيا حسب تخصصي عينت - دون علمي، ودون ما وساطة- مستشارا صحفيا في رئاسة الجمهورية؛ وهو منصب مرموق جدا وواعد جدا!
إلا أنه كان لا بد من تغيير هذا الوضع الشاذ المهين؛ ولكن كيف، وما العمل؟ وفي هذا تفسير البيتين التاليين اللاحقين على تلك الفترة:
كنت ممن إلى الحقوق يتوق ** لا أبارى فيـــها، وفيها أفوق
بيد أني لسوء حظ زمــــاني ** شغلتني عن الحقوق الحقوق!
مهاجر لبناني آخر - لم أعد أذكر اسمه- نزل ضيفا في فندق "مرحبا" سنة 1963. ولأنه كان أول نزيل عربي يستضيفه ذلك الفندق فقد آويته في بيتي الجديد في الكتلة الوسطى من الكتل الخمس (بلوكات) وعالجت بعض مشكلاته؛ فكافأني بربطي بمهاجرين لبنانيين (2) في داكار، هما الأخوان بهيج وحسين عيسى. وبواسطة آل عيسى تعرفت، حين مررت بداكار في نفس السنة قاصدا باريس، على زهرة شباب المهجر في داكار؛ وخاصة آل فخري (ٍٍسعيد وخالد) وآل مخدر (العم عبدو وأحمد ومحمد). وعن طريق هذا الشباب عرفنا كارثة فلسطين - التي كان عمرها يومئذ خمس عشرة سنة- وفلسطين، قضية العرب والأحرار الأولى؛ إذ أهدوني كتابا بهذا العنوان للضابط الأردني عبد الله التل الذي أنقذ القدس من الاحتلال سنة 48 فانكببت على قراءته في مونبليي بدل دراسة اللغة الفرنسية التي كانت غاية بعثتي إلى فرنسا، وكان من شأنها أن تبوئني في ذلك الحين مكانا عاليا، لولا أن طبيعة جيل "الستينات المجنونة" كما يسميها ذ. أحمد مخدر رحمه الله، والسبعينات الأشد جنونا تختلف تماما عن طبائع اليوم. لقد كان بإمكانهم تسنم أعلى المراتب والمناصب، وكانت الأبواب مشرعة أمامهم ليصبحوا ذوي ياقات بيضاء وصفراء ولكن ثقافتهم وشيمهم وقيمهم وهممهم العالية كانت تأبى ذلك وتتشبث بمصالح الشعب والوطن، وتتخذ النضال سبيلا لتحقيقها. وكان شعر شوقي وحافظ والبارودي وإيليا وجبران والرصافي والشابي ومفدي زكرياء وقصص غوركي وتولستوي وليوسين وهيغو ملهمهم، وسير القادة والمناضلين الثوريين مثلهم الأعلى، ويتأسون بقول الشيخ محمد عبده:
مجدي بمجد بلادي كنت أطلبه وشيمة الحر تأبى خفض أهليه
حركة القوميين العرب في موريتانيا
وعن طريق سفارة الأَرْزِ في داكار (شباب المهجر اللبناني) وصلت إلينا أيضا حركة القوميين العرب ومجلتها الغراء الرائدة "الحرية" التي حملت الفكر والثقافة إلى أجيال الستينيات والسبعينيات في موريتانيا! وقد ظل دعمهم لقضية التحرر في موريتانيا ثابتا ومستمرا مع الزمن، دون إخلال بالأخلاق والقيم والثوابت المبدئية التي تآخينا عليها أنصارا ومهاجرين. فحركة القوميين العرب - ومن بعدها الكادحون- لم يتخذوا قط بلدا أجنبيا سندا، ولم يرجعوا في توجههم وسياساتهم إلى سفارة ما، ولم يتخذوا أجنبيا قط ظهيرا.
يتبع
بقلم الأستاذ محمدٌ ولد إشدو