دقة - حياد - موضوعية

في ذكرى وفاة الرئيس المؤسس المختار بن داداه ../بدنه ولد سيدي

2018-10-17 06:23:21

تم اكتتابي في الشركة الوطنية للصحافة موثقا في جريدة " الشعب " بعد أقل من أسبوعين من صدور أول عدد من طبعتها اليومية في فاتح يوليو 1975 باللغتين العربية و الفرنسية.

.

كان ذلك زوال يوم الأربعاء 11 يوليو و كنت خرجت للتو من حجرات ثانوية البنات حيث كنت أجري امتحان شهادة "البرفي" في صيغتيْها الفرنسية و المزدوجة.
بدأتُ العمل موثقا في مصلحة الأرشيف و لكنني سرعان ما حوِّلتُ محررا مترجما في الجريدة العربية و كان رئيس تحريرها آنذاك الأستاذ النائب الخليل النحوي
.
التحقتُ مبكرا بفريق المراسلين فخوَّلني ذلك نوعا من الانفتاح المبكر على الاروقة الرسمية في الدولة نتيجة لتغطية العديد من النشاطات الرسمية الحزبية و الحكومية
.
و من أهم الأحداث التي واكبتها آنذاك انعقاد مؤتمر الحزب المسمى مؤتمر التوضيح و تخليد الذكرى الخامسة عشر للإستقلال الوطني و اندلاع حرب الصحراء المشؤومة . و قد خولتني تغطية تلك اللأحداث الكبيرة تسجيل بعض المشاهدات أقتصر منها على ثلاث
.
حضرت حفل الافتتاح الرسمي لمؤتمر الحزب المنعقد في مقر الأمانة الدائمة أي مبنى البرلمان حاليا و كانت القاعة " الضخمة
" في أعيننا آنذاك منظمة تنظيما دقيقا بحيث وضعت داخلها لافتات من هنا وهناك تشير إلى مواقع جلوس الوفود المختلفة الرسمية و الممثلة للإتحادات و الأقسام في انواكشوط و الداخل.و نتيجة لتأخر حضور فريق الجريدة المؤلف من مراسليْن و مصور ، ضاق عني المكان المخصص للإعلام الرسمي طبعاً (إذْ لم يكن هنالك إعلام حر)المنحصر في الجريدة و الاذاعة و الوكالة حديثة النشأة.
و لذلك السبب سمح لي المنظمون استثناءً بالجلوس في المقعد الشاعر المجاور إلى جانب أحد الوفود الوافدة من الداخل
.
حضر رئيس الجمهورية الأمين العام للحزب الأستاذ المختار ولد داداه و اعتلى المنصة الرسمية وسط تصفيق حار تتخلله هتافات عالية بالترحيب بمختلف اللغات الوطنية
.
ما إن أخذ الرئيس مقعده بين أعضاء المكتب الدائم إلى جانب وزير الدولة للتوجيه الاستاذ عبد الله ولد بيه، و صل عبد العزيز رئيس الجمعية الوطنية ، حتى ترأس الاجتماع و بدأت مراسيم الافتتاح الرسمي فألقيتْ خلاله خطب موجزة. و باكتمال الجانب الرسمي من الحفل دعي غير المؤتمِرين إلى الانسحاب و على رأسهم الصحافة.و لحسن الحظ لم يَشملني إجراء الطرد من القاعة بسبب الاستثناء الذي حُظيتُ به من قبلُ فحضرت على غرة من المنظمين وقائع الجلسة الاولى للمؤتمر
.
كان الرئيس المختار ولد داداه رحمه الله يدير الجلسة بأريحية كبيرة فيوزع الكلام بين الحاضرين و يزاوج في خطابه بين اللغتين الحسانية و الفرنسية و يكاد لا يخلو أي خطاب له من مداعبة.من ذلك أنه لما جاء دور أخيه أحمد وزير المالية آنذاك و أراد أن يعطيه الكلام خاطبه باللغة الفرنسية قائلا
: Ahmedldaddah leader de l’opposition légale
و معناه: أحمد ولد داداه زعيم المعارضة الشرعية
!
و أذكر أن إطلاق تلك الصفة على ذلك الأخ الوزير المؤتمِر لفت انتباهي و سألت عنها أحد الاعلامين من ذلك الجيل فأجابني بأن أحمد كان حينئذ يحسب على جماعة داخل النظام تنحو منحى معينا و ذكر من هؤلاء محمذن ولد باباه و محمد ولد سيدي عالِ و قال إن ذاك الاتجاه كان موجها نحو سيادة السيدة الأولى أكثر منه إلى السيد الرئيس نفسه
!.
المهم أنني لا زلت أذكر تدخل زعيم المعارضة الشرعية يومذاك ، فقد أقترح أن تستبدل عبارة " ميزانية الحزب
" بميزانية الدولة في معرض تناول البند الذي يتحدث عن تحمل نفقات الوفود لأن الحزب لا ميزانية له كما قال!
وكان جدول الأعمال يتعلق بنقاش وثيقة تتعلق بالحزب أعتقد أنها أحدُ نظاميه الأساسي أو الداخلي
..
تذكرت كل ذلك عندما تقلد الرئيس أحمد ولد داداه منصب زعيم المعارضة الديمقراطية قبل سنوات و تعجبت من تلك الصدفة العجيبة
.
أما بخصوص الذكرى الخامسة عشر من الاستقلال ، فقد حرصتْ الحكومة آنذاك أن تخلدها تقليدا مشهودا في حجم التطور " الكبير " الذي عرفته البلاد و عصفتْ به الحرب ، و أن تُشهد على ذلك شهود عدول من أهلها أولا ثم من أهل الأقطار الصديقة و الشقيقة كذلك. و هكذا نظمت احتفالات كبيرة متنوعة بمناسبة هذا الحدث العظيم دعيتْ لحضورها شخصيات كبيرة من كل القارات.و أذكر أن بين تلك الشخصيات العربية و الافريقية و الاوروبية عددا كبيرا من أصدقاء الرئيس من الحكام الفرنسيين السابقين .و قد صادفتُ من بين هؤلاء في المطار شخصيتيْن بارزتيْن هما الشيخ محمد الأمين بن الشيخ محمد الخضر بن ما يابى و فرنسي قُدم إلينا على أنه مدير الثانوية الفرنسية الحرة في مدينة " نيس " التي كان يدرس فيها الرئيس المختار ابان قدومه إلى فرنسا
.
و كان الحدث الأبرز في تلك التظاهرات هو حفل العشاء الفاخر (أو حفل المشوي حسب الاصطلاح السائد آنذاك ) الذي أقامه فخامة الرئيس في ساحة القصر الرئاسي على شرف ضيوفه الكرام
.
و بطبيعة الحال فلم يكن ليظفر بدعوة لحضور مثل ذلك الحدث الهام لدى الموظف المعني في المراسيم سوى قلة من الصحفيين ذوي التجربة الرائدة الذين يعرفون من أين يُؤْتى الموظفُ و تؤكل الكتفُ
!
و بما أنني لست من هؤلاء و أنا المبتدئ الغرُّ ، فقد جنح بي الطموح جنوحا إلى حد المخاطرة ، إذ توجهتُ ليلتئذ مباشرة إلى القصر و لم أعد أتذكر التفاصيل و لكن ما هي إلا لحظات حتى وجدتني جالسا القرفصاء على مائدة رئاسية فاخرة أتقاسم طيِّباتها بسخاء مع بعض كبار الضيوف من الداخل و الخارج و هم: ولد اعل سالم مدير المطبعة الوطنية آنذاك ( مدير ديوان رئيس الجمهورية لاحقا) و الصحفي عبد العزيز دحماني من جون أفريك و حاكم فرنسي في عهد الاستعمار اسمه فيزي
Vézy قدم نفسه على أنه هو من أنشأ مدينة موريتانية في منطقة الحوضين لعلها تامشكط.
أما بخصوص حرب الصحراء فلا زلت أذكر ذلك القصف المرعب بالمدافع الثقيلة الذي تعرضتْ له العاصمة انواكشوط في الصباح و المساء على يد فرقة من مسلحي البوليساريو و كيف أن مطاردة هؤلاء من قبل الجيش الموريتاني أدت إلى مقتل القائد الشهير الولي مصطفى السيد و الاستيلاء على كميات كبيرة من الأسلحة و الذخائر عُرِضتْ في اليوم الموالي أمام الصحافة الوطنية و الدولية في مقر وزارة الداخلية.و كان الغرض من ذلك المعرض هو طمأنة الشعب و إشهاد الحاضرين على تورط الدولة الليبية في النزاع إلى جانب البوليساريو بدليل وجود كميات كبيرة من الذخائر تحمل اسم الجماهيرية العظمى باللغة العربية الفصحى. انتهى المعرض بلقاء خاطف مع معالي وزير الداخلية أحمد بن محمد صالح داخل مكتبه و كان يشير بيده إلى أحد المقاعد و يقول : لقد جلس الولي رحمه الله أكثر من مرة على هذا المقعد إذ كنت أستقبله دائما أيام كنا ندعم توجهه بإخلاص في بداية أمره
.
و قد كنت كذلك ضمن فريق الصحفيين الذين حضروا إلى المطار لتغطية عودة الرئيس المختار ولد داداه من مدريد و هو يحمل معه " خريطة موريتانيا الجديدة " بعد أن انضم اليها وادي الذهب بموجب الاتفاق المشهور.بل أكثر من ذلك ألزمني رئيس التحرير وكالة الاستاذ سيدين ولد إسلم بإعادة رسم تلك الخريطة بشكل يسهل معه نشرها في الجريدة . نشرت الخريطة الجديدة في اليوم الموالي تحمل عنوان هدية للشعب الموريتاني ، و لكن فرحة الشعب بها ربما لم تكتمل إذ شابها خطأً فادح في الرسم أفقدها مدينة انواذيبو العاصمة الاقتصادية
!
و بخصوص الخريطة المذكورة حدثني الاستاذ محمذن ولد باباه أكثر من مرة آخرها قبل أسبوعين في حاضرة آوليكاتْ المحروسة أن الرئيس المختار ولد داداه عرض تلك الخريطة على مجلس الوزراء فور عودته من مادريد و أنه قال له يومذاك : السيد الرئيس ، هذه الخريطة مطوية على حرب
!
هذا و قد كنت كذلك ضمن فريق الصحفيين الذين استقبلوا الرئيس في المطار ابان قدومه من الجزائر بعد تهديده و " احتجازه " المعروف من قبل الرئيس الجزائري الراحل هواري بو مدين
.
يومها كان في قاعة الشرف أيضا أبناؤه الصغار و منهم عز الدين الذي يبدو أنه استهوته تجهيزات القاعة فكانت له بها حركات صبيانية عشوائية دائبة عرقلت تسجيل التصريح الرسمي المعتاد إذ لم يزل السيد الرئيس ينتهره مناديا باسمه و لكنه لم ينزجر إلا بعد حين
.
لم تمض إلا أيام معدودات حتى قرر الرئيس أن يشد الرحال من جديد متجها هذه المرة الى الرباط في المملكة المغربية.و كان من عادة الصحفيين أن يعقدوا صفا عند مدخل قاعة الشرف ليتسنى للرئيس أن يصافحهم قبل الدخول . و لا يزال أهل الاعلام يذكرون مدى جرأة الصحفي أحمد سالم ولد اسويدات الذي قال له يومذاك و هو يصافحه: السيد الرئيس ، نتمنى لك في سفرك هذا حظا أوفرَ من سفرك السابق! و لم يزد الرئيس أن أومأ إليه برأسه مبتسما
!
و أختم فأذكر و الشيء بالشيء يذكر أنني سافرتُ مرة في تلك الحقبة لقضاء عطلة نهاية الأسبوع خارج مدينة انواكشوط و لما عدتُ صباح الاثنين استقبلني رئيس قسم الأخبار الوطنية في الجريدة العربية الاستاذ محمد الحافظ ولد محم حفظه الله و قال لي لحسن حظكَ أن غبتَ إذ لم تكن لتتحمل ما تحملتُه نيابةً عنك في سفر مفاجيءٍ إلى الجبهة العسكرية! و استطرد يقول : رافقتُ القائد العام للقوات المسلحة العقيد معاويه ولد سيد أحمد الطائع مع أفراد من الصحافة في طائرة عسكرية في اتجاه عين بنتيلي لحضور حفل في عين المكان بمناسبة استرجاع تلك القلعة الحصينة بعد استلبها منا البوليساريو و قتل قائد الفرقة العسكرية بها القائد المحبب اسويدات ولد وداد
.
غادرنا انواكشوط صباحا و لما وصلنا تلك المنطقة عمّ الغيمُ في الجو و انحسرتْ الرؤية فاقتصرت على محيط الطائرة الضيق و لكن الطيار الفرنسي لم ينبس بشطر كلمة.و لم يكن يساورنا أدنى شك في أننا تجاوزنا الحد الزماني على الاقل المفترض أن نبلغ فيه وجهتنا المقصودة.ساد صمت رهيب قطعه القائد في آخر المطاف باعترافه بأنه ضل طريقه و تجاوز الحدود المعتادة. و هنا يقول محدثي أخذ العقيد معاويه زمام الامور بثقة كبيرة فبسط خريطة لديه و أمر الطيار بأن يستدير و يعود ففعل و لا زال يأمره بالارتفاع مرة و الانخفاض مرات و الدوران في بعض الاحيان و الركاب في صمت مطبق كأن على رؤوسهم الطير ، حتى إذا تراءت لنا معالم القلعة باهتة و نحن نحلق في أقصى انخفاض ،عندئذ تنفس الطيار الصعداء و انبسطت أسارير وجهه و انطلق لسانه بالشكر فاتخذ تدابير النزول و هبطت الطائرة بأمان وسط استعراض عسكري لا أخاله إلا مزدوج الفرحة باستعادة القلعة السليبة و سلامة الموكب المَهيب
..
و يقول محمد الحافظ إن المشاركين في ذلك الحفل ما فتئوا يتحدثون يومئذ عن قلقهم و هم يستمعون إلى صوت الطائرة و هي تحلق جيئة و ذهابا فوقهم يسمعونها بآذانهم و لا يرونها بأعينهم و لا صلة بينها و بينهم إلا الدعاء الصالح و أخشى ما يخشونه عليها تجاوز الحدود أو نفاد الوقود
.
منذ صدور مذكرات الرئيس المؤسس المختار ولد داداه و أنا أتبنى بخصوصه مشروعا مفاده أن أسجل رأي كل من ذكرهم في تلك المذكرات من الأحياء حول ما ورد عن شخصه أو الموضوع المتعلق به
.
و كلما توفي أحد هؤلاء العظام أزداد قناعة في ضرورة تنفيذ هذا المشروع دون أن أقطع أي خطوة في تحقيق ذلك
.

رحم الله السلف و بارك في الخلف.

تابعونا على الشبكات الاجتماعية