ثانيا: 10 يوليو 1978 - 12/12/ 1984
أقبل الليل فجـر يوم حزيـــن ** فنسينا المنى وذقنــا الهوانـــــــا
حين جاس المغول نهبا وسلبا ** وانتهاكا وعــاث جنـكيز خانــا
لجنة بعد لجنـة بعـد أخــــرى ** نخرتنـــا طبيعــــة وكيانــــــــا.
(من قصيدة طغراء في سجل تجكجة الذهبي ـ ديوان أغاني الوطن).
.... لقد كنا عشية انفجار أزمة الصحراء نساند الحكومة الموريتانية الوطنية لأسبابنا المفصلة آنفا (في الحلقة السابقة) وإن لم نكن جزء منها. وكنا نعارض اتفاقية مدريد وتقاسم الصحراء واستحواذ المغرب عليها، ونحبذ استقلالها ونؤيد جبهة بوليزاريو في نسختها الأولى حين كانت حركة شبابية وطنية هدفها المعلن تحرير الصحراء من الاستعمار الإسباني وتستقطب في صفوفها الأمامية عناصر موريتانية كانت قريبة من مدرستنا الفكرية. ولم نكن نعلم شيئا يومها عن وجهها الحقيقي وملابسات نشأتها من علاقة غير شرعية تمت في بلادنا الغافلة بين المخابرات الليبية المتلفعة برداء "الثقافة" وبين الحركة الناصرية في آدرار ومدينة شنقيط خصوصا (انظروا كتاب الأسراب الجانحة للجاسوس الليبي محمد سعيد القشاط)!
ولما استأسدت بوليزاريو وصارت قوة في قبضة معسكر التأزيم في المنطقة عارضنا إشعال حرب عبثية في المغرب العربي واستغلال بعض زعمائه بدعم من القوى الأجنبية لقضية الصحراء وعفوية وطفولة بوليزاريو، في تحقيق نزواتهم الرامية إلى زعزعة أمن المنطقة وإسقاط الأنظمة الوطنية فيها وتخريب اقتصادها وإبادة شعوبها، وفي مقدمتها الشعب الصحراوي الذي تم تدميره والتدمير به دون أن يجني من وراء ذلك شيئا!
وعلى ذلك الأساس فقد التزمنا الحياد في الحرب، ودعونا أطرافها لوقف العداء بينهم والبحث عن حل سلمي للأزمة. وحاورنا بوليزاريو في نسختها الثانية في الجزائر، وقد أصبحت في أقل من ثلاث سنوات دولة وجيشا وإمكانيات هائلة، واتفقنا معها على التخلي عن سياستها المدمرة اتجاه موريتانيا؛ والمتمثلة في التوسع واعتبار كل موريتانيي الشمال صحراويين وتركيز عملياتها العسكرية على موريتانيا بغية إحراقها وإركاعها باعتبارها إياها الحلقة الضعيفة في سلسلة الأعداء، وعلى ضرورة مهادنتها والوصول معها إلى تفاهم يصون المصالح العليا للجميع. (انظروا مقال "في رحاب الشهداء". إلا أن القوى المسيطرة على بوليزاريو مزقت ذلك الاتفاق قبل أن يجف حبره، وحملت القائد الولي - رحمه الله- بعد ذلك بنحو شهر على الانتحار على أسوار انواكشوطّ!
ومع ذلك، ورغم التصعيد ضد موريتانيا وانتهاج سياسة الأرض المحروقة وما واكبها من تخريب وقتل وخطف وتنكيل وتعذيب، فقد أقنعنا الحكومة الموريتانية في الأخير بالتفاوض مع بوليزاريو والوصول معها إلى هدنة أو حل. وشرعت في ذلك، لكن انقلاب العاشر يوليو فوّت تلك الفرصة وأجهض جميع المساعي والحلول السلمية!
وجاء انقلاب الـ 10 يوليو 1978 تحت ذريعة إنهاء الحرب، لكنه لم ينهها، وإنما أنهى استقرار موريتانيا وأوقف مسارها نحو التقدم، وارتهن سيادتها واستقلالها. لم يكن لدينا - ولا لدى معظم الشعب الموريتاني- أدنى شك في الطبيعة الرجعية والانهزامية لذلك الانقلاب. تلك الطبيعة التي عبر عنها بحق رفيقنا المرحوم يحيى ولد عمر لصديقه سيد أحمد ولد ابنيجاره رحمه الله بقوله: أخي "بن" في نظري ليست هذه ثورة بل جيش منهزم. وذلك بسبب معرفتنا الدقيقة للقوى الاجتماعية التي تقود الانقلاب والدعم الخارجي الذي يقف وراءه. وعليه فقد عارضناه وتشبثنا بمواقف ومطالب مرحلية تعبر عن الحد الأدنى مما يمكن الحفاظ عليه مثل: نبذ تصفية الحسابات السياسية والفتن القبلية والجهوية والعرقية، واستغلال السلطة والنفوذ، وضرورة الامتناع عن توقيع صلح منفرد، والعودة السريعة إلى الحكم المدني.
ولكن الرياح جرت بما لا يشتهي الوطن.
- لقد فشل التحالف الهش الذي قاد الانقلاب في الحفاظ على أدنى حد من تماسكه، كما فشل في تحقيق أي من أهدافه المعلنة، وبدأ بعضه يأكل بعضا، وسرعان ما توجه جلهم إلى ما هاجر إليه، ليتلاشى تماما بصيص الأمل الواهم الذي علقه البعض على مكونة الشباب في التحالف؛ وخاصة الرائد الوطني جدو ولد السالك رحمه الله.
- وانهار المجلس الوطني الذي أراده قائد الانقلاب أداة للحكم وللعودة إلى الحياة المدنية، فلم يتمكن حتى من مجرد الانعقاد.
- وجاء انقلاب 6 إبريل ليوقف الانهيار ويصلح بعض ما أفسده انقلاب العاشر يوليو.. ولكن هيهات! فلقد اتسع الخرق على الراقع وتناسلت وأفرخت أسباب الجنوح! وبسقوط طائرة الرئيس أحمد ولد بسيف - رحمه الله- المدبر، سقط آخر أمل آني في الإصلاح والصمود في معركة الاستقلال وتحقيق سلام مشرف وشامل، وفتحت أبواب جهنم على الوطن غداة استيلاء ثالوث عشائري موال لجبهة بوليزاريو على السلطة، حوَّلَ موريتانيا إلى مستعمرة ذليلة تابعة للعدو!
لم يرض أبناء موريتانيا الأحرار طبعا بهذا المصير المهين لوطنهم الغالي، فتداعوا لنصرتها والذب عنها وانتزاعها من قبضة السجان، فتأسست المنظمات والجمعيات، وأقيمت معسكرات التدريب، وغصت السجون والمنافي في الداخل والخارج بالأحرار، وسقط الأبطال الميامين برصاص الإعدام وتحت التعذيب.
لم نصمت يومها ولم نتلكأ ولم نداهن؛ بل كنا أول من تم توقيفهم بعد العاشر يوليو على خلفية رفض المشاركة في "برنامج أخطاء وجرائم النظام البائد" وكنا وراء إفشال المجلس الوطني، ووقفنا مع الرائد جدو رحمه الله، وساندنا حركة 6 إبريل والرئيس أحمد ولد بسيف، وكنا أول من تم اختطافهم وسجنهم في تيشيت بعد انقلاب نهاية مايو 1979، وكنا في طليعة مؤسسي التحالف من أجل موريتانيا ديمقراطية.. الخ. لم نكن وحدنا في الميدان طبعا؛ بل هبت جميع قوى المجتمع إلى درب النضال في سبيل الوطن (المثقفون، رجال الأعمال، الضباط الأحرار، الأمراء والوجهاء، التيار القومي: البعثيون والناصريون...) ولم يهدأ بال أو تقر عين إلى غاية ظهر الأربعاء 12 /12/ 1984 حين تمكنت كوكبة من ضباط الوطن، في ظل جو الثورة والتمرد العارم ضد ذلك الحكم، من الإطاحة به وتخليص موريتانيا من العار!
لقد انكسر القيد وانجلى الليل وفتّحت أبواب السجون وقذفت منافي الداخل والخارج من كانوا في جوفها الحالك من الثوار، فأشرقت الشمس والتأم الشمل وعادت البسمات إلى الشفاه! وفي ذلك العرس الوطني البهيج صدح الشاعر أحمدو ولد عبد القادر يتغنى بأمجاد وقيم شعبنا الأبي:
خلقنا بهذي الأرض قوما أعــــزة ** وأرواحنا بالخــــير تبـــنى وتعمر
إذا غاب عنا الماء والخبز لم تغب ** كرامتنا فيـــــما نقـــول ونبـــصر
وترضعنا الصحراء روح انعتاقها ** نســـيما علـــيلا في العـــوالم يعبر
فكــيف تُـــربينا الســـلاسل أمـــة ** سوى ما خلقنا، كيف نسبى ونقهر؟
إذا ملك الإنسان حق احتـــــرامه ** فـــكل اعتــــبار بـــعد ذلك يصــغر.
يتبع.
بقلم الأستاذ محمدٌ ولد إشدو