"سيدي"!
لماذا رحلت بهدوء دون أن تودعني وتودع أصدقاء عمرك الحافل؛ وخصوصا ذلك الثالوث الحميم: صديقك وقريبك الشاعر أحمدُ ولد عبد القادر، ورفيقا دربك القلم، والطبشور؟
.الآن فقط فهمت سبب ثنيك لِيَ الدائب عن زيارتك، ومغزى تسويفك في زيارتي!
كنت تشفق علي أن أراك في غير هالة الفتوة التي ألفتُ وألفتَ، وتخفي عني جاهدا سرا أفشاه ابن أبي سُلمى منذ 15 قرنا أو يزيد:
"كل ابن أنثى وإن طالت سلامته ** يوما على آلة حدباء محمول".
"سيدي"
"لو كنت أعلم أن آخر عهدكم ** يوم الرحيل فعلت ما لم أفعل".
لما ذا ضننت عليَّ بإشارة ولو "رمزا" بأنك مودع - وكلنا مودعون- فأؤدي بعض حقوقك علي وعلى الأهل والوطن؟
أولم يدُر بيننا منذ وقت قصير حديث هاتفي طويل تناولتَ فيه مختلف جوانب برنامج "جماعة" الأستاذ أتقانا ففصلتَه بلآليء بيانية، وأخرجته في ثوب بديعي قشيب، ومعان لم تخطر لي ولا لمحاوري ببال؛ مما جعلني أستحضر دائما "حكاية أبي الأسود الدؤلي والأعرابي" كلما حدثتني عما تستوحيه من ظلال الكلمات!
كم كنت تكره الجمود والتقليد والتجريد والجفاف الفكري، وتعشق الخَلق والمجاز والتجديد والإبداع.. لحد أني ضبطتك نشوان تهتز كطفل في مهب الرياح يعبث بأرجوحته وتصيح هذا هو الأسلوب الحي الذي نحتاجه في كتابتنا لمجرد تصدر البيتين التاليين مقالة سياسية كتبتُها:
قلوب العاشقين لها عيون ** ترى ما لا يراه الناظرونا
وأجنحة تطير بغير ريش ** إلى ملكوت رب العالمينا.
"سيدي"
كان بودي لو أخبرتني بأن ذلك البوح آخرُ وحي فكري يتنزل، فأكتبه بماء الذهب، وأتشبث به وبك إلى ما لا نهاية، حتى ولو أفلسْنا وأفلست شبكة اتصالات السودان!
"سيدي"
من لي بعدك أطارحه صراحة هموم القصيدة، وأبوح له بمعاناة اليتم الثقافي، والتصحر الفكري، وعربدة وتسول وضياع الحرف، رغم كثرة العدد والمدد والألقاب والزعامات:
ألقاب مملكة في غير موضعها ** كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد!
ومَن بعدك لمقارعة أدعياء التفافة الهائمين في دروب التيه والكارعين في مزابل الرذيلة والفساد.. {وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة}!
ومَن بعدك ترجمانا وفيا مقتدرا خبيرا عارفا بجزء مهم من شخصيتنا الوطنية يتهدده اليوم انقراض وشيك؛ ألا وهو لغة وثقافة صنهاجة!
... أما العربية وعلومها وآدابها فقد احترقت برحيلك واحدة من أعرق مكتباتها كانت تمشي على قدمين!
ثم من بعدك لي ولغيري بـ"تگلاع" كَانَوال ورطبه الجني!؟
أتذكُرُ حين كنا نفترس النصوص الأدبية واحدا تلو الآخر فلا يسلم من سيف نقدك البتار إلا ما رحم ربك فطغت فحولته، وتجلت جزالته، وأحكم حبكه، لحد أننا قمنا ذات مساء - من بين ما نقوم به- بتشريح وبَتْرِ زوائد وأوصال همزية الشيخ سيدي محمد ذات المضمون السياسي الرفيع والشكل المهلهل المترهل.. فما كان أجرأنا!
"سيدي"
قليلون هم من يدركون أنك ساهمت في حملة عصابة الأربعة الرامية - في الثمانينات- إلى مقارعة الانحطاط بلغته وثقافته، دون أن تعلم بوجود تلك "الفئة الضالة". كنت يومئذ معلما في إحدى مدارس التجهيل فنظمت قطعة هزلية رائعة على لسان التلاميذ توثق وضع التعليم، مطلعها:
إن المعلمُ هذا اليومِ لَمْ جــاء ** وليــس يَحْــــدُرُ للأَكُّول مَرَّاءَ
إني ندهت عليه الشيه يَقْرِدُه ** عنا ويجعل منه الوجهُ كحلاء
لم يرتح "سلك التعليم" للقطعة التي اعتبروها هجاء، وتوجهت إليك مفرزة منهم ركزت على الجانب الشكلي مستنكرة (فقط) إدخال "لم" على "الفعل الماضي". فما كان منك - وقد عرفت قدرهم- إلا أن استنجدت بـ"ألفية ابن مالك" و"قوله":
"وزوجوا دخول لَمْ على المُضِي ** كلَمْ أتى ولَمْ سَعَى ولم رضي".
عندها طأطأ بُناة أنفس وعقول ذلك العهد رؤوسهم الفارغة، وقوضوا خيام الاحتجاج وانفضوا من حولك وهم يعتذرون لك عن نسيان تلك القاعدة المعلومة عندهم بالضرورة، ويعترفون بأنك خليفة سيبويه وابن مالك معا في الأرض! وقد امتد بك العمر حتى عشت إرهاصات وتباشير نهضة الوطن ورأيت بعض ثمارها.
سلام عليك، وعلى عهدك الزاهر، وعلى الأرض التي أنجبتك، والوسط الذي أنبتتك نباتا حسنا؛ وتقبلك الله في فسيح جناته إنه حليم كريم غفور رحيم وسميع مجيب.