المستوى الثاني : التبادل التجاري والذي لعب فيه البيضاني ،مكرها، دورالوسيط المكروه/ المرغوب بين الصناعي الفرنسي والموزع اللبناني الشامي والمستهلك السنغالي :وهو الدور الذي خلق لدى المواطن السنغالي عقدة التفوق المدني على جاره تاجر التقسيط الذي لا يعتني كثيرا بسكن ولا ملبس أحرى النظافة، بحكم ضيق الحال وضرورات التقشف لتحصيل المال ،فأضحى مضرب المثل في عديد المسلكيات الشائنة،
.
وإن احتفظ الزنجي في مكنونه بعقدة النقص أمام الرجل الأبيض الأول البدوي البدائي ،مع عامل عقدي يوازي الحالتين هو البعد الديني للبيضاني المرشد المبشر صاحب الشرعية الذي يحمل بين جنبيه النص المقدس و من بين بني جنسه من ينحدرون من سلالة الرسول الاعظم وما يمثله هذا القديس الشريف أو الشيخ أو هما معًا من معاني ورموز وخوارق.
وقد يفسر هذا المستوى عقدة أوديب في العلاقات بين الشعبين ،لا حلها، وتفسيرها لاتسييرها ،ولكنها تظل دائما نبعا لا ينضب من النقائض :(يسيل جانبه ماء إذا اشتعلتْ**نار مؤججة في الجانب الثاني)..
المستوى الثالث: التنافس على السيادة: وهو من طبائع الاشياء،ذلك أن موريتانيا (تراب البيضان)التي كانت تُدار من أندر منذ منتصف القرن17 باعتبارها مُعضلة إدارية وبشرية وحضارية تعيق دور التمدين والتحديث الذي جاءت من أجله (؟) القوى الآوروبية إلى ماوراء البحار، تجاوزتْ دور العقبة منذ استقلالها و تطمح أن تكون نِدًّا بل منافسا للدولة الأعرق في منظومة الكتلة الفرنكوفيلية.
إن الولفي الطبيعي يحمل مسردا من الآراء الجاهزة والأحكام المسبقة والأمثلة السائرة عن البدوي الأبيض تجعله إما قديسا (شيخا ذا بركات أو شريفا من آل البيت)أو شيطانا(سارقا محتالا) دون منزلة وُسطى ،فَاجَأهُ البدوي وهويتكلم الفرنسية ويتدرج في سلم الطائرة ويداعب بين أنامله سيجارا كوبيا ويلبس حلة باريسية باذخة فلم يستوعب النقلةَ لأن الذاكرة الجمعية النمطية بطيئة استيعاب المتغيرات. ومع الوقت أصبح المستوى التنافسي مثيرا فتولد نوع من الاحتكاك يثير قشعريرة تلامس الاحتراق..
ومابين الستينيات والثمانينيات استقر تصنيف الموريتاني عند السنغاليين على ثلاثة أنواع:
ــ نار(العربي عموما)كنار(البادية)
ــ نار موريتاني(الدولة الحديثة)
ــ القديس الشيخ أو الشريف أو هما معًا..
** ** **
أوائل الثمانينيات كنت كما تلخصه الصورة المرفقة،في ريعان الشباب الذي تجاوز الميعة ، إن كان عرفها، قوميا عروبيا إفريقيا نكروميَّ القناعة، في ثوب إنساني يساري حاد التقاسيم (ولن أبرحها) وكنا ـ ذاك الزمن ـ نكاد نلامس بأخيلتنا الملونة مستقبلَ البشرية الوضاء في الحرية و المساواة و الوحدة ، وكنتُ عائدا من سَفرة قادتني إلى لبنان أيام الحرب الأهلية ( تنذكر و ما بتنعاد كما يقول إخوتنا البيارته) معرِّجا على كعبة اليسار ،آنئذٍ ،طرابلس ، و كما هي عادة أهل الثورة ـ سقى الله أيامهم ـ أنزلوني فندق الشاطئ على ضفة زرقة المتوسط الأبدية( وهو أرقى و أعرق فنادق طرابلس فرج الله كربتها) حيث أحط عصا التسيار و أشعر بروح التاريخ تغمرني بأطياف الفاتحين والقادة و المغامرين الذين مروا منذ فجر الزمن حتى غروبه على سواحل هذا الماء الخالد...حنابعل أو هانيبال ... عليسة...الملاح حنون... الغافقي... عقبة...يوسف ... الحشاشون ... الدايات ...البايات ...الباشوات..القرهمنلي ...رومل...غرازياني ...شيخ المجاهدين ...إلخ
مسائي الأول في سهرة مقهى الفندق الذي لا بديل عنه في مدينة ثورية متصوفة لا مقاهي أو مطاعم أو دور مسرح فيها ،حيث كنت ألتقي ،عادةً ساحر افريقيا محمد الفيتوري والكربلائي العظيم مظفر النواب فترات مروره بصديقه الحميم الشاعر مقدم سيد قذاف الدم ،وبينما كنت ابحث بعيني عنهما ، إذْ حملتْ إليّ أذناي حديثا وُلفيا سينغاليا أليفا؛فتقدمت مستطلعا فإذا بدزينة من الشباب السنغالي تتحلق حول فناجين القهوة والشاي السيلاني الأحمر الوفير...
سلَّمتُ بولفية دكارية "توبابية" فيها نكهة "وليام بونتي" فتقافز القوم مهللين و مرحبين بهذا " النار" الهابط من اللا أين!
حدثوني بأنهم من أنصار المعارض السنغالي المُعَتَّق ـ آنذاك ـ الأستاذ عبد الله واد ،وأنه مقيم بليبيا في ضيافة القائد العربي الليبي الكبير معمر أبومنيار القذافي تغمده الله بواسع رحمته ،فاستغربت أن يكون مضطرا إلى اللجوء في الخارج ،والسنغال معروف بالتسامح السياسي والتعددية الليبيرالية أكثر من بعض البلدان الغربية ، ولما التقيته أسهب في شرح حساسية "عبدو ضيوف" الرئيس الحاكم إذ ذاك ،منه.
وأنه قد يعتقله لو عاد إلى بلاده، قلت : ما الفرق بيننا و بينكم نحن مطاردون من طرف الانقلابيين العساكر و أنتم مطاردون من مدني منتخب باسم الديموقراطية...
وفي نقاش متصل مع أحد مساعديه قال لي عبارة ما زالت ترن في أذني بعد عقود ، (وإن لم تبدل من قناعتي بأن ديمقراطية الغرب لعبة مال) مجملها: "إن الديمقراطية التي سلطت عبدو ضيوف علينا ستسلطنا عليه"..
بعد ذلك بعقدين كان المعارض المبعد الطريد يستقبلني في معرض دكار الدولي للكتاب وأهديه ديواني "التيه والبحر والذاكرة" الذي يتضمن قصيدتي" Tout Passe" كل شيء يمضي بالفرنسية...
ولأنه لمَّاح ذكي فقد فهم الإشارة..
كان يومها عبد الله واد فخامةَ الرئيس وسيدَ" قصر روم" الرابض على منكب الأطلسي منذ قرن ونصف ،وبعد إنابتيْن أحالته دورة البطاقات إلى دارته في Point E .
وما زال القصر يروي قصص المارين من دهاليزه و أصداء شخيرهم في غرفه المسكونة يردد خاتمتها :
....Hélas tout passe
السنغالُ.. رغم اختلافاتنا الجوهرية ..منافس شقيق..
من صفحة د/ناجي محمد الامام الشخصية